"الشعر ملك الكلام"
*Simonides
تعتبر الفنون وعلى رأسها الشعر، من أهم مظاهر الحضارة. وقد خص الفيلسوف اليوناني أرسطو Aristotle الشعر، بكتاب ألفه ودعاه (فن الشعر Poetics) كما ألف شاعر الرومان هوراس Horace كتاباً عن الشعر دعاه أيضاً (فن الشعر).
والشعر من الفنون الجميلة، التي يسميها العرب (الآداب الرفيعة) وهي الرسم والنحت والموسيقى والشعر. ومرجعها تصوير جمال الطبيعة التي يصورها الشعر والمكان، والألفاظ والمعاني. والفن عموماً هو نظرة جمالية الى الوجود.
الشاعر غسان حنا
الشاعر غسان صديق حنا، هو اليوم رمز من رموز حياتنا الأدبية يشق طريقه في ثبات، وسط ضبابيات العصر، وزحمة الأشياء في زمن الأشياء، حيث المواهب في الشرق، مثل الازهار البرية، تكتفي ببضع قطرات من الماء، تقاوم بها الجفاف. وقد كون الشاعر غسان حنا تجربته بنفسه، وكانت له رؤيته الخاصة للطبيعة والوجود، وهو يقول: "ما أتيت الى الشعر، بل جاء الشعر معي منذ الطفولة".
ولادته ونشأته
من ربوع الساحل السوري، يصعد الشاعر المتفرد، الى آفاق الكون، حاملاً معه الوطن والانسان والحياة والمصير..
وقد جمع بين الشعر والعلم والأدب، وموسيقى الحياة.
ولد الشاعر غسان حنا في قرية المراح، على الساحل السوري قرب مدينة بانياس، وسط بيئة متماسكة ومتدينة بانفتاح.
درس في مدينة اللاذقية، وتابع دراسته في جامعة دمشق، وتخرج فيها، حاملاً شهادة الاجازة في الأدب العربي، وعمل مدرساً للغة العربية في مدارس اللاذقية. وهو عضو اتحاد الكتاب العرب. وقد شارك في مهرجانات شعرية عديدة. محلية وعربية ودولية. يكتب في الأجناس الأدبية من شعر وقصة ومسرح ونقد. وهو واحد من الشعراء الذين عملوا على تطوير أنفسهم، وتطوير القصيدة وتنقيتها من شوائب النمطية واللغو المجاني.
وانفرد الشاعر غسان حنا بسبق شعري بين أقرانه في حركة الشعر الحديث، وإن تألق الشاعر، لايعود الى الموهبة وحدها، وهي عالية عنده متأججة، بل الى الاخلاص لقضية الشعر، واعتبار القصيدة مشروع حياته الأهم، وهجسه الدائم في المغامرة، وارتياد الآفاق.
وبحكم تخصصه في الأدب العربي، فقد نشأ ولديه فلسفة لا تهدأ حدتها، وهو أيضاً شاعر مفطور، لايكف عن التجديد، وكأنه عنقاء Phoenix تخرج من نار، وقد كتب يوماً!
جلست أكتب والنجوم شواهد.. حولي، ومملكتي سطوري!.
إنتاجه الشعري والأدبي
يقول أرسطو: "الهدف من الأبداع الفني هو الامتاع والتعليم" وللشعر عند غسان حنا متعته الخاصة، حيث تولد الكلمات كالقناديل، وهي ترمز الى النور، كما ترمز الى الحقيقة.
أصدر الشاعر غسان حنا ديوانه الشعري الأول (أوراق اعتماد) في عام (1978) وكالسفير قدم أوراق اعتماده الى (ربة الشعر) التي قبلتها على الفور. ومنذ ذلك الحين، وهو لايتوقف عن الابداع شعراً ونثراً وقصة ومسرحاً، بالفصحى وباللغة المحكية. وكما كتب للكبار فقد كتب للصغار أيضاً.
وللشاعر غسان حنا المتعدد المواهب عدد من الكتب الشعرية الأخرى، منها (توشيح على مقام الليل) و (الدخول في الزمن) و (أبجدية التجلي) و (روحان بجسد واحد)و (أناشيد لسمو الونبقة) و (ماقدرت سميك) باللغة المحكية.
وفي المسرح كتب (مملكة الغبار) و (نحيب الظلال) و (حتى يتدحرج الحجر). وفي القصة (حافلة التراب) وكتب للأطفال مجموعة شعرية بعنوان (إنني أحبكم).
في قضايا الوطن والمجتمع
الشاعر غسان حنا صاحب مشروع شعري، يضم قضايا وطنية وفكرية وثقافية وإنسانية. وهو ملتزم بقضايا وطنه وشعبه.
ويرى الشاعر غسان حنا. أن الحياة تسير دائماً الى الأمام، حتى عند الذين يحاولون إيقافها، في زاوية محددة، وهي تستلكهم وتمشي.
وهو يرى أن عصر النهضة، أجهضته القوى الثورية الموتورة والفجة، وكسرت ظهره الهزائم المتلاحقة. لكن ثمة قفزات ناجحة، لم يكتب لها الاستمرار، فإذا هي بعد حين شعوذة وهرطقة... لقد اختلفنا على التسميات والعناوين، ونسينا الطاقات البناءة الحية والخلاقة، وهو يقول:
"اطمئناني الى ما أقدمه من شعر، يجمع بين قضايا الوطن والمجتمع، ولابد من التجديد"!..
ونحن نرى أن الكلام عند الشاعر غسان حنا (رسالة) وكما قال أحد الشعراء:
"هو الكلام رسالات مغلفة.. بالصمت حيناً، وبالأسرار أحياناً".
الصورة الشعرية عند الشاعر
يقول عزرا باوند Ezra Pound أحد أهم شخصيات حركة شعر الحداثة في الأدب العالمي، عن الصورة الشعرية بأنها: (تمثل مركباً فكرياً وعاطفياً في لحظة من الزمن). وكما جمع المتنبي بين الخيل والليل والبيداء والسيف والرمح والقرطاس والقلم. فقد جمع الشاعر غسان حنا بين البيان، ومتانة التعبير، وجمال الصورة، وبلاغة اللغة وموسيقى العبارة، فائقة المعنى، راسخة المبنى، في الكلمة والصورة.
وشعر غسان حنا ملئ بالصورة الشعرية، التي يستقيها من الحواس أكثر من استقائها من الفطرة، كما أنه غني بالكثير من الرموز، والدلالات والايحاءات. ومن قصيدة له بعنوان مرثية البحر يقول:
لا أمواج لهذا البحر
ولا آفاق لهذا الحزن
فمنارات الموج انكسرت
ونوارس ترسم فوق رمال الشاطئ زمناً بحرياً
بحراً يرسو خارج مقبرة الأمواج.
أتمدد في جسد البحر المطعون
وأحضن قدس الماء.. وأشهد
أنا أسلمنا البحر الى الجزر
وهدير الموج إلى الأسماء!..
خصائص شعره
الشعر عند الشاعر غسان حنا هو الشاعر..لاحدود ولاحواجز في الزمان والمكان، والمعيار الجوهري هو الذات، الابداعية المتنامية.
نهل الشاعر غسان حنا من التراث، قبل أن ينطلق في تجربته الشعرية المتميزة، وما كان الشعر الغربي بعيداً عنه. فقد تأثر بكل من بودلير وإليوت ونيرودا، كما تأثر بالروائي والشاعر نيكوس كازنتزاكيس.
وشاعرنا ينتمى الى زمنه الشعري، وعصره الثقافي بامتياز مطوراً تجربته الشعرية، متواصلاً مع طبيعة الحداثة...
الشاعر العظيم كالأنهار العظيمة، التي تتحدد عظمتها بالينابيع الدائمة والمجرى العميق، والمسير الطويل، ثم السعة والهدير والأصداء. وما ينصب فيها وما يتفرغ عنها، ومن أنهار صغيرة وسواقي وبرك وبحيرات، والشاعر غسان حنا نهر شعري، ننعم بصفاء حضوره، وأخضرار خمائله. ولو نظرنا الى دواوينه، نستجلي فيها معالم الرمز، ودرجة أصالته وعمقه. ومن قصيدة رمزية له بعنوان (أنطاكيا) يقول فيها:
خافت هدير البحر والغازين، ثم ترجلت...
هتفت.. يعيش البحر.. عاش الموج والقرصان
رفعت منابرها لمجده سلما..
أهدت منارتها لعرشه صولجان..
ليست مواهبة شبابا..
باعت كتاب الفلسفات.. لتشتري خزي الخطابة!..
وعندما سئل الشاعر غسان حنا عن مذهبه الشعري، ولماذا اختاره قال: "نشأتي واقعية، مشبعة بالرومانسية. وكنت واحداً من الذين أفادوا من الوسائل التعبيرية، والادوات الفنية للمذهب الرمزي".
والشعر الحقيقي عند الشاعر غسان حنا. تفاعل تلقائي بين الشاعر والجماهير... علاقة جدلية كتلك العلاقة بين المطر والأرض، بين الرياح والأشرعة!..
وفي شعره مقاطع حالمة، وصور بلغة الترحال، يذهب بنا نحو آماد بعيدة لاتغيب فيها نجمة، ولاينخسف فيها قمر.. هكذا الشعراء الكبار. لايمكن أن ينضووا في بوتقة اسلوبية واحدة، معلم من المعالم الأدبية مزهو بمفرداته من غير تصميم مسبق مقصود.. كذلك هي مواسم الحقول البرية الشاسعة، لا تحرثها سكة، ولايعمرها ساعد!.
نماذج من شعره
ما أجمل أن يكون مسك الختام، وختام المسك، باقة من أشعار الشاعر غسان حنا، نستمتع فيها بسحر الكلمة وروعة التعبير.
-من قصيدة بعنوان (تساؤل)
تسألني.. لو يعود الزمان
فماذا ستفعل غير الذي فعلت
أقول لها: لو يعود الزمان
وحين تعيد السؤال فأصمت
تعرف أن الجواب.. السؤال!..
-ومن قصيدة بعنوان: (لكي أحبك)
لكي أحبك.. لا احتاج الا لسماء صغيرة
باتساع عينيك!..
قبل أن تسقط من أيدينا زجاجات النبيذ
ويراق الزمن المعتق القادم..
لكي أحبك لابد أن..
-ومن قصيدة بعنوان (أنا وروما)
حين وطأت أرض المطار..
كان الزمن بانتظاري..
من غبار الآلهة، حتى بخور الاله الواحد..
من إكليل المجد.. على رأس يوليوس قيصر.
حتى إكليل الشوك، على رأس يسوع الناصري
ومن طعنة بروتوس الخائنة.
إلى قبلة يهوذا الخائنة!.
-في باريس
قد كتبت بدفتر تلك الكنيسة
أني عبرت طريق دمشق..
الى قلب روما..
وها هي باريس، في شاعر سوريا جديد
ترى ذلك الشرق.. وجه اله!.
-الأطفال وأنت
حين أدللك..
يتراكض في أعصابي مئات الأطفال..
كأنهم في مسابقة للجري.. خلف القمر!..
-مجازفة ....
أجازف.. حتى أرى فيك
ما لايرى الشعراء..
فأضحك حزنك
وأشرب ماء السراب..
وماؤك يجري نميراً.
فأعرف عطش الاتواء.
أجازف.. حتى على وشك أن تهجريني.
وأقصيك.. حتى أراك على البعد!..
-شاول وبولس.. أو طريق دمشق
يسقط شاول.. ينهض بولس
كون تهاوى.. وكون تعالى..
وبينهما صرخة شاهدة..
طريق دمشق.. عبور الى الأرض..
قالت قوافلها العائدة!..
لقد جاءت هذه المقالة، محاولة للحديث عن الشاعر غسان حنا، الذي يرفع اليوم راية التحدي. لإعلان مملكة الانسان على الأرض. والخلاص عنده، عن طريق محبة الناس، وقيادتهم في الطريق الصاعدة.. طريق الحرية والتقدم الانساني.