د. ياسين العيوطي يكتب: إن غاب المنطق فرح العرب

د. ياسين العيوطي يكتب: إن غاب المنطق فرح العرب
د. ياسين العيوطي يكتب: إن غاب المنطق فرح العرب

        في القواميس العربية، لا يوجد تعريف واضح لكلمة المنطق. بالاطلاع على تلك المعاجم تجد رقصات لفظية حول معنى المنطق. تقودك تلك الرقصات إلى أن للمنطق علاقة بالاستنباط الفكري. هذا الاستنباط يتكون من سلسلة ألفاظ تستخرج منها ما تشاء أن ترى فيها جوهر المنطق. مؤدى هذا الاستنباط أن المنطق هو علم بالمبادئ الأصلية للتسبيب. وهو علم يشتد حوله الخلاف بين العرب.

        مثلا إن قلت: سمعت طلقة بندقية، فخرجتُ من منزلي للتعرف على ما حدث، فرأيت شخصا ملقى على الأرض ودمه ينزف من جراحه. فإذا بي أرى شخصا آخر يجري في اتجاه مضاد، وبيده بندقية ويصيح: لقد قتلت عدوي إلى غير رجعة. هنا يقودك المنطق إلى أن الصائح هو الفاعل. وهذا هو وجه المنطق وجوهره.

        اكتشف العرب القدماء علم المنطق حينما اتصلت فتوحاتهم بالإمبراطورية الرومانية الشرقية أي بيزنطة عبر الشام. وساعد على ذلك الاكتشاف رغبتهم في الغوص في علم الطب. فتوجهوا إلى ترجمة ذلك الاكتشاف المثير إلى لغتهم، واضعين ألفاظا جديدة للإعراب عن ذلك الكشف الجديد.

        غير أن تلك الاكتشافات المنطقية لم يكن لها سند في ثقافة أهل البادية وهم العرب الأصليون في الجزيرة التي أحاطت بها عدة ثقافات: في الجنوب نجد ثقافة أهل اليمن، وفي شرق الجزيرة نلتقي بثقافة فارس. وإن تحولنا شمالا ألفينا الثقافة البيزنطية؛ وفي الغرب نواجه الثقافات المتراكمة التي ترسبت في تربة مصر.

        غير أن علم المنطق لم يتعد أماكن الدراسة بالأزهر أو صالونات الأدب التي أنشأتها عائلات رغبت في الفوز بشرف العلم الذي خلق أرستقراطية جديدة. أو في الأديرة المسيحية التي تحافظ دائما وأبدا على المعرفة والعلم والاحتفاظ بما كان. ولكن ذلك العلم، باستثناء المترجمين والدارسين، لم يتغلغل في العقل الباطنللجماهير العريضة، وخاصة منها من لا يعرف القراءة والكتابة. ذلك باستثناء الأروقة الأزهرية، أو الأديرة المسيحية العريقة التي وجدت في الصحراء ملاذا لها من غياب منطق الرعاع والحنجوريين والطائفيين.

        لذا تجد في كتب المنفلوطي ”العبارات“ و”النظرات“، وفي كتب طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد عبده وحافظ إبراهيم وسعد زغلول ومكرم عبيد وقادة الأزهر مثل الشيخ شلتوت ما يبهر العيون ويثري الأذهان وكأنه المطر الذي يصب من السماء ليروي بادية الجهل والجاهلية. وهي التربة التي أنبتت الإخوان المسلمين.

        هنا نشير دون تفصيل إلى أثر غياب المنطق على الخيال العربي. وليكن هذا في إطار تساؤلات: ماذا استفاد العرب من طرد اليهود من أراضيهم مما ساعد على تحويل معظم الأراضي الفلسطينية إلى دولة إسرائيل؟ ألم يكن من الخير احتضانهم في الأراضي العربية لكسر الشوكة الديمغرافية للتمدد الصهيوني؟ وماذا استفادت مصر من تعجل عبد الناصر بتدويل شركة قناة السويس قبل الموعد القانوني الذي كان عبارة عن 12 عاما فقط قبل تلك الخطوة التي جرّت على مصر حرب 1956؟ وكيف رأى ياسر عرفات في غزو صدام حسين للكويت عملا عظيما؟ ولماذا لا يتفق المغرب والجزائر على الاستثمار المشترك لمنطق تندوف بدلا من الخلاف الذي يمتص مصادرهما دون عائد؟ وهل رأى حزب البعث في تناطحه بين سوريا والعراق أي مكسب؟ وكيف تطمع الزعامات الفلسطينية الغارقة في الفساد في تحرير الأرض المغتصبة عن طريق خلق كيان في رام الله وكيان معارض له أقامته حماس في غزة؟ ولماذا أصر النميري بمساندة صديق المهدي في السودان على أسلمة الجنوب السوداني المسيحي والوثني، مما فسخ السودان إلى دولتين؟ وهل ترى السعودية في حربها في اليمن طريقة إلى الوئام بين الجانبين: الحوثيين والوهابيين؟ وهل ستعود الوحدة الأرضية إلى سوريا بعد أن أغرقها بشار الأسد في محيطات من الدماء وجعلها مرتعا للقوات الروسية؟ وهي تستطيع السعودية استيعاب الأسلحة التي اشترتها من أمريكا وروسيا ببلايين الدولارات؟ وكيف يساعد هذا على سعودة القوات المسلحة التي تعتمد على عضلات السودانيين والباكستانيين؟ وهل ينتظر ما يسمي نفسه بالجنرال حفتر لم الشمل في ليبيا التي أصبحت صومالا أخرى؟

        المنطق غائب أو مُغيبفي الشارع العربي وفي مقار رئاسات معظم الدول العربية. وفي غيابه يفرح العرب الذين يستعيضون عنه بالشائعات البراقة. في حرب 1967 رأينا إسرائيل تنتصر على عدة دول عربية. وفي خلال تلك المحنة جاءني في مكتبي بالأمم المتحدة زائر مصري بفكره المريض. قال: لماذا لا تنزل معي إلى قاعة الوفود بالمقر الدائم للأمم المتحدة لكي نشيع أن القوات البحرية المصرية أحرزت النصر في إيلات؟ رفضت قائلا: وماذا تستفيد الأمة العربية من شائعة مزيفة تُلقى وتموت في قاعة وفود الدول في نيويورك؟

        رأى ذلك الزائر في الشائعة وسيلة إلى الفرحة المؤقتة!! وغاب عنه منطق الأحداث الذي صرخ بلغة الهزيمة العربية. إن غاب المنطق فرح العرب؟ 

 

بقلم: د. ياسين العيوطي

المستشار القانوني وأستاذ القانون بنيويورك