أبوبكر البغدادى فكرة، والفكرة لا تموت. قد ينقلب العالم رأسًا على عقب لتقصى ملابسات التعقب والاغتيال، وقد يندلف جيش الخبراء الاستراتيجيين والمتكتكين الأمنيين ليطلوا علينا من كل حدب ليخبرونا بالخطة اللوذعية التي قضت على البغدادى، أو التحركات المسبقة التي أدت إلى الوصول إليه والقضاء عليه في هذا الوقت بالذات وليس غيره. كل ما سبق متوقع ومقبول.
لكن من غير المقبول أن نتعامل مع مقتل البغدادى باعتباره الفصل الأخير من دراما داعش وشركاها. فـ«داعش» شأنه شأن أشقائه وأبناء عمومته فكرة، والفكرة قد تخفت لكنها تتحين اللحظة الفارقة لتعاود النهوض والانتشار. ليس هذا فقط، بل إن صانعى الأفكار لديهم من ملكات الإبداع وطاقات الابتكار ما يتيح لهم توليد عشرات الأفكار الأخرى والعمل على تغذيتها وتطويرها وانتشارها.
وسواء كان «داعش» صناعة أمريكية برعاية تركية ومباركة روسية، أو كان وصفة أممية لنثر «بودرة العفريت» في المنطقة الملتهبة بصراعاتها، المبتلاة بجوانب متحجرة من تراثها، أو كان منتجًا محليًا كأبناء عمومته من إخوان مسلمين وسلفيين وتكفيريين ونصف نصف وغيرهم، يظل أبوبكر البغدادى و«داعش» ومحاربو التنظيم والمتعاطفون معه والرافضون تكفيره فكرة حية ترزق.
وإذا كان «الإعلان» عن مقتل البغدادى الآن أحدث حالة من الحراك الأممى، وأفضى إلى شعور من السعادة بالنصر الكبير، فإن الأرض التي قُتِل عليها البغدادى فيها بدل البغدادى ألف ويزيد. والأفكار التي رفعها تنظيم الدولة الإسلامية ليست من بنات أفكاره أو وليدة الأمس أو أول من أمس. هي موجودة مزروعة متشابكة ممسكة بتلابيب الفكر منذ عقود وقرون. تخفت حينًا لكنها تعاود الانتعاش والازدهار مرات ومرات. صحيح أن «داعش» ربما أفرط بعض الشىء في الدم والذبح واستباحة الأرواح والممتلكات، لكن علينا ألا ننسى أن التنظيم وُلد في العصر الرقمى ودمقرطة المعلومات. وأغلب الظن أن جانبًا لا يستهان به من نجومية التنظيم وهوليوديته يدين للإنترنت بما حظى به- ومازال.
ومازلنا أبعد ما نكون عن التعامل مع الفكرة. مات البغدادى، وغدًا وربما قبل غد، يظهر العشرات غيره. انقلب المصريون على حكم جماعة الإخوان، وأطاحوا بها من الحكم، لكن أبناء عمومتها «أكثر من الهم على القلب» يرتعون في ربوع مصر ويطلون عبر منابر قانونية وغير قانونية.
مواجهة الفكرة قد تلجأ أحيانًا إلى سبل جراحية تقوى عليها الدول الكبرى ذات السطوة الأممية والهيمنة العضلية والقدرة على إجبار الآخرين على عدم مساءلتها. فماذا تفعل أمريكا في العراق أو سوريا مثلاً؟ ولماذا تحدد روسيا مصير حكام في منطقة الشرق الأوسط أو تتأرجح بين مساندة تركيا والتربص بها على حساب مجموعات عربية بعينها؟ وهلم جرا. لكنها تنطوى كذلك على أدوات يستخدمها أطباء الباطنة المهرة، حيث الكشف الدقيق والتشخيص الصحيح وتجربة علاجات شتى حتى يتم سحب السموم بأكملها من الجسم.