يدور في مصر لغط لا معني له اثاره الكاتب الروائي أحمد مراد بقوله أن أعمال نجيب محفوظ ليست ملائمة لعصرنا وقد عفي عليها الزمن، نظرة قاصرة بشكل كبير لأن الأعمال العظيمة تبقي وتخلد، فلا أحد يقول أن أعمال دستوفسكي الروسي أو مارك توين الأمريكي أو المتنبي العربي أو غيرهم قد عفي عليها الزمن، وأعمال نجيب محفوظ تنتمي إلي هذه النوعية من الأعمال العظيمة، ولهذا استعيد هناإطلالة محبة علي سر إبداع هذا الروائي الانسان الفذ، الذي مكننا بعطائه الشاهق من تذوق "سحر الحرية"، حرية الإبداع وحرية عشق الحياة بكل ما بها من عنف وفرح وشهوة وانحطاط، في خلطة مدهشة لم يتقن فن تقديمها لنا سوي نجيب محفوظ.
……………………………………………………………………………
جائزة نوبل
لقد عرف العالم قدر هذا المبدع العظيم فمنحه جائزة نوبل في الأدب عام 1988م. وذلك عن ثلاثيته الشهيرة التي تضم «بين القصرين» و «قصر الشوق» و «السكرية»، وكلها أسماء حارات في حي الجمالية الذي وُلد فيه محفوظ، ثم رواية «أولاد حارتنا» التي قام إرهابيو الفكر والفعل بتكفيره بسببها! وأذكر انني قرأت «أولاد حارتنا» عندما كنت طالباً ، وكانت جريدة الأهرام تنشرها مسلسلة في «أهرام الجمعة». كما قرأت بالأهرام ايضا «الطريق» و «اللص والكلاب» و «السمان والخريف» و «ميرامار».. وكان كل جزء ينشر كل جمعة هو زادنا الحضاري والروحي للأسبوع كله، أنا ومجموعة صغيرة من الأصدقاء كنا نتابع معا هذه الكتابات الباهرة التي يتحفنا بها محفوظ كل أسبوع، ونظل نتناقش ونحتدّ حولها حتى الجمعة التالية.
إبداعات فلسفية
من الضروري أولا التنبيه ان المقاطع التي سأوردها هنا مأخوذة معظمها من روايات وقصص نجيب محفوظ عن لسان شخصياته الروائية، وبالتالي لا نستطيع ان نقول ان هذه هي بالضرورة أفكاره هو، فعندما يضع المؤلف كلمات عن لسان مجرم شرير، مثلا، فستكون أفكاره وأقواله شريرة، ولا نستطيع ان نقول ان هذه هي أفكار المؤلف ووجهة نظره، ومع هذا فيمكننا من طريقة صياغة المؤلف للكلمات والأفكار أن نعرف شيئاً عن فكر المؤلف حتى ولو جاء متخفياً على لسان شخصياته الروائية.
ولنبدأ بعرض فكرة قالها نجيب محفوظ مباشرة في مقابلة مع محمد بركات، وهي بهذا فكره الشخصي.. ويتضح منها المنحى الفلسفي لهذا الكاتب الكبير:
«أعتقد أن كل إنسان يبحث عن السعادة وعن الحقيقة.. ورغبة بعض الناس الشديدة في السعادة ربما سقطت بهم إلي تحقيقها على حساب الحقيقة.. كما أن رغبة البعض الآخر في نشدان الحقيقة والبحث عنها ربما كانت على حساب ما يحققونه من سعادة.. ويبلغ الإنسان مرتبة الكمال عندما يتضح له في لحظة أن الحقيقة كل الحقيقة هي السعادة كل السعادة».
ويقول في قصة «الحب والقناع»: (الإنسان يفوق الحيوان في شهوة القتل فيقتل نفسه ايضاً).
ونقرأ له في روايته «الحرافيش» إفرح عند كل شروق شمس، ولا تحزن عند غروبها.. و.. يا لتعاسة القلوب الغافلة..!
وفي «حضرة المحترم»، نقرأ هذه الكلمات الرائعة التي هي مزيج من الفلسفة والشعر والصلوات:
«على الأرض تطرح أسرار إلهية لا حصر لها لمن له عين وبصيرة..
إن الله لم يخلقنا للراحة ولا للطريق القصيرة..
بالحزن يتقدس الإنسان ويعد نفسه للفرح الإلهي..
لم يعد يبالى بما كان ولا بما هو كائن ولا بما سوف يكون..»
ونلاحظ في هذه المقاطع تعبيرات متأثرة بالعهد القديم.. كما نلاحظ في الكثير من كتابات وشخصيات محفوظ تأثيرات إسلامية واضحة، وهكذا فالرجل مسلم في اعتدال وانفتاح.. ولذلك إتهمه الإرهابيون بأنه ليس مسلماً صحيح الإسلام! أي ليس مسلماً على طريقتهم العدوانية.
ولكني لا أريد أن أعطي انطباعاً أن نجيب محفوظ كان رجلا شديد التدين بالمعني الفقهي للكلمة.. فكتاباته تنضح بقدر عظيم من عنفوان الحياة وشهواتها وتقلباتها.. فهو من ناحية له جانب صوفي روحي ينشد الحقيقة ويبحث عن المطلق، ومن ناحية اخرى لا يمنعه هذا من اجتراع عصارة الحياة حتى الثمالة. دون أن يعني هذا انغماسه في أي نوع من الابتذال في حياته الشخصية بل بالعكس فحياته الشخصية كتاب مفتوح للجميع فهو زوج وأب محبّ محافظ ليس له نزوات ولا عادات اجتماعية سيئة، و تتجلى محبته للناس وللحياة في حفاوته بالناس وحبّه للضحك الصافي وللسخرية والنكتة والقافية على طريقة المصريين جميعا.. فهو مصري في كل قطرة من دمائه وبكل مشاربه.. لكنه يمثل أجمل ما في الأخلاق والطبائع المصرية.. وله في وصف المصريين كلمات جميلة قالها في مقابلة مع ألفريد فرج..
قال في المصريين
«المصريون لطاف وأهل مودة، يحبون الحياة ويعشقون مسراتها، وبخاصة المسرّات الحسية، وفيهم من طبيعة النمل، ذلك هو دأب الواحد منهم.. وحتى لو لم تكن همته عالية، إلا أنها همة متصلة باستمرار.. تثمر في النهاية عملا ضخماً، ومن صفات المصريين العجيبة أنهم تمرسوا بالاستبداد.. وهم من أقوى الناس على كراهيته وعلى الصبر عليه. إنهم يحتملونه كما يحتمل الشخص مرضاً مزمناً لا يحبه ولكنه يصبر عليه. يخيّل لي أنهم من أكثر شعوب العالم إحساساً بالحاكم. وسبب ذلك أن الحاكم كان له دائماً وفي كل العصور أثر في كل تفاصيل حياتهم اليومية.. وهم من الشعوب المتدينة جداً.. ويغلب عليهم التعلق بالطقوس والمراسم والعادات الدينية.. وإن أي نقائص في الشخصية المصرية - كالقدريّة وندرة الروح العلمية والسلبية في كثير من الأحيان - إنما ترجع إلى ما ورثته من عهود الظلام التي شملتها آلاف السنين».
ولنجيب محفوظ كلمات أخرى بها نقد عظيم للشخصية المصرية وللمصريين - على قدر حبه العظيم الواضح لهم - نقرأها على لسان شخصياته الروائية. ومنها: «كان كالثور المصري عظيم الخوار عديم الأذى».
وتمنحه الروايات فرصة استخدام كلمات قد لا تكون لائقة لا يقولها هو ولكن تقولها شخصياته الروائية بشكل معبر قوي.. فنقرأ في «السكرية»: «الحق إن الاستبداد هو مرضهم (المصريين) المتوطن.. كل ابن كلب غرّته قوته يزعم لنا أنه الوصي المختار وأن الشعب قاصر.. نحن شعب قليل الأدب!.. لا أعرف شعباً كالشعب المصري ولعاً بالخوض في أعراض الأمهات.!.. إن الزمن أدّبنا أكثر مما ينبغي، والشئ إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضده، ولذلك فنحن غير مؤدبين! ولكن تغلب علينا الطيبة رغم ذلك..
أما في «ميرامار» فيصرخ «عامر وجدي» في غضب: «أيها الأنذال، أيها اللوطيون، ألا كرامة لإنسان عندكم إن لم يكن لاعب كرة؟».. ويقول عامر وجدي أيضا في نفس الرواية: «لقد سلبت (الثورة) البعض أموالهم وسلبت الجميع حرياتهم». أما حسني علام، شخصية أخرى من شخصيات ميرامار فيخاطب المصريين قائلا: «إني أتبرأ منكم!.. أتبرأ منكم يا فتات العصور البالية»!
وفي «المرايا» نقرأ على لسان شخصية تدعى «عبدالرحمن شعبان» هذه السخرية اللاذعة: «هكذا أنتم أيها المصريون، لن تزالوا غارقين في أوهام الكلمات حتى تموتوا.. لو لم أكن مصرياً لتمنيت أن أكون مصرياً! ولِمَ لا تتمنى أن تكون حماراً فيكون لك نفع على الأقل؟!.. وفي موضع آخر من «المرايا» أيضا يقول عبدالرحمن شعبان: «أتعرف ما هي أكبر نعمة أغدقت علينا؟ هي الاستعمار الأوروبي، وسوف تحتفل الأجيال القادمة بذكراه كما تحتفلون بمولد النبي».
ولكننا نعرف من كل هذا النقد القاسي، أن الذين يحملون للوطن حباً حقيقياً هم الذين ينتقدونه أشد النقد، بينما لا يقدم المنافقون سوى الطبل والزمر في الزفة.
مزامير نجيب محفوظ
في مقطع جميل من كتاب «في حب نجيب محفوظ» يصف رجاء النقاش النفحات الشعرية الخلابة في كلمات محفوظ هكذا: «نحس أن الكلمات مليئة بندى الشعر الجميل، كما نتذكر ونحن نقرأ هذه المقاطع «مزامير داود» التي جاءت بالعهد القديم والتي تعتبر - بعيداً عن قيمتها الدينية - مجموعة من أجمل الأغاني التي عرفتها الإنسانية في تعبيرها عن همومها وجروحها وآلامها ومناجاتها الصوفية للكون والحياة.. ويمكننا ان نسمي هذه المقاطع «مزامير نجيب محفوظ» ولعل نجيب محفوظ قد تأثر بهذه المزامير وليس عندي من دليل إلا تشابه الروح التي تتأمل وتغني وتفكر وتصوغ خواطرها صياغة شعرية جميلة."
وليس أجمل من هذه «المزامير» أختم بها هذا المقال، اخترتها من عدد من أعمال نجيب محفوظ:
- في ظل العدالة الحنون تطوي آلام كثيرة في زوايا النسيان.. ولكن هل يتوارى الضياء والسماء صافية؟
- عاد إلى دنيا النجوم والأناشيد والليل والسور العتيق. قبض على أهداف الرؤية، وانتفض ناهضاً ثملاً بالإلهام والقدرة، فقال له قلبه لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة.
- إنه فقير ولكنه غنّي بحمل هموم البشر.
- ما أكثر العفة المتولدة عن العجز.
- إننا نأبى التسليم بالمثل العليا من طول انغماسنا في الماء الآسن.
- مأساة الآدمية انها تبدأ من الطين، وأن عليها بعد ذلك أن تحتل مكانتها بين النجوم.
- دنيا بلا أخلاق ككون بلا جاذبية.
- لماذا لا يسود النقاء؟ ما الذي حال دون ذلك طوال القرون؟
وهل يوجد في مكان ما من الأرض إنسان يعيش بلا خوف ولا رذائل.
- تساءل ألا يمكن أن يؤكد إنتسابه إلى الإنسان ويتناسي إنتسابه الجبري إلى هذا الوطن؟
- ثمة آلام أعنف من ترف الضمير!
- الإنسان إما أن يكون الإنسانية جمعاء وإما أن يكون لا شئ.
وقد استطاع هذا الإنسان الجميل نجيب محفوظ أن يكون أقرب ما يكون إلى الإنسانية جمعاء.