حسنى حنا يكتب: أنطون تشيخوف.. الأديب والمؤلف المسرحي الكبير

حسنى حنا يكتب: أنطون تشيخوف.. الأديب والمؤلف المسرحي الكبير
حسنى حنا يكتب: أنطون تشيخوف.. الأديب والمؤلف المسرحي الكبير

"لقد دفع تشيخوف فن التعبير الى حدود البساطة، والى نقطة لم يبلغها أي كاتب آخر"

*Maxim Gorky

 

عرف القرن التاسع عشر عدداً من الأدباء الروس العباقرة الذين وصلوا بأدبهم الى قمة الابداع ومن أهمهم (تولستوي، ديستويفكسي وتورغنيف) وقد أتصف أدبهم بأنه ذو صفة عالمية، وطابع إنساني.

والى جانب هؤلاء، ظهرت فئة من أدباء الطليعةـ في مقدمتهم أنطون تشيخوف ومكسيم غوركي. وقد تميزت آثارهما بطابع جديد. ومحتوى اجتماعي شعبي أصيل، يصور مشاعر البؤس والتخلف والضعف ، في مجتمع كان متخلفاًـ بالنسبة لباقي الدول الأولاوبية.

ولد أنطون تشيخوف Anton Chikhov عام (1860) وتوفي عام (1904) وهو كاتب قصص ومسرحيات، داخل بلاده روسيا وخارجها. وقد عرف تشيخوف في حياته الشقاء، وعاش فقيراً، لم يبتسم له المجدـ إلا في اواخر حياته. وإن الألم الذي انصب على تشيخوف، جعل منه إنساناً، مختلفاً عن باقي القطيع، الذي استمر في الوجود، بفضل تجار (الفودكا) وأحلام الظهيرة.

بدأ تشيخوف حياته الأدبية، في الكتابة ببعض الصحف الصغيرة، التي كان هدفها تسلية القارئ. ثم انتقل بعد ذلك، الى المشروعات الفنية الحقيقية. وإن الانسان ليعجب كيف استطاع تشيخوف، وهو الطبيب الذي اتجه الى الأدب خلال عمره القصير (44 سنة) أن يكتب هذا العدد الكبير من القصص والمسرحيات. وقد كتب اكثر من ألف قصة قصيرة، وعشرات المسرحيات، وهو أحد أصحاب أكبر عدد من القراء، وأكثر المؤلفات نشراً في روسيا وخارجها. ويعود نجاح تشيخوف الخارق، إلى أنه أحس وعانى ما أحسه ملايين الناس وعانوه، وقد أحتج تشيخوف على الكذب والعنف، واستغلال الانسان.

 

القصة عند تشيخوف

يعتبر (تشيخوف) أحد رواد فن القصة القصيرة في روسيا. فقصصه تقدم تفاصيل دقيقة لحياة الناس العاديين، في تفكيرهم وفي طموحاتهم. لتجاوز الكسل والإهمال، ليصبحوا قادرين على فعل شيء ما، يدفع بحياتهم الى فضاء أكثر راحة واطمئناناً، ولاشك أن الشروط، التي التزمها تشيخوف، قد أوجدت له أسلوباً متناهياً في بساطته وسهولته، كما أوجدت القصة المعروفة بإيجازها، الغنية بلقطاتها، التي تعرض لنا حياة، أو مقطعاً من حياة..

وكان (تشيخوف) قد شاهد حياة عامة الناس، من ملاكين ومرابين وموظفين مستخدمين وتجار، كما خبر حياة المساكين، وشاهد مظاهر الفساد والانحلال وإفساد الضمائر.. وعرف طبائع الحكم الاستبدادي القيصري، وما يجر في أعقابه من الويلات. وقد تيسر له أن يطلع على هذه المظاهر من الداخل. والى جانب موهبة الكتابه وصدق التعبير، والنظرة الصحيحة الى الأشياء والناس، مكنت تشيخوف أن يبلغ مرتبة المبدعين، ولعل من أجمل قصصه قصة (المستشفى رقم 6) التي صور فيها الفساد والتدهور الاجتماعي. كما صور اضطهاد الانسان وإهانته في قصة (الفوضى) وفي قصة (عازف البيانو) الذي يعزف لتسلية المدعوين، أصحاب الوجاهة، يرينا تشيخوف كيف يطرده صاحب القصر، لأنه رفض أن ينزل نفسه منزلة الخدم.

وفي القصة (الملل) يرينا سائق العربة الفقير المنهك، كيف يناجي حصانه، بعد أن أيقن أن هذا الحيوان، هو المخلوق الوحيد، الذي يصغي إليه بتجاوب عاطفي مؤثر.

 لقد اعتقد تشيخوف دائماً أن النبوغ صبر وعمل، وبأن الموهبة لاتغني عن الجد. كما كان يرى بأن هناك صلة خفية، تربط بين الانسان والطبيعة.. ونحن نباغت أبطاله وهم يتكلمون عن القضايا، التي تشغلنا اليوم، وبالعبارات عينها أو تكاد.. لقد وفق تشيخوف في قصصه في التعبير عن أفكار ذات عمق مدهش ومحض أبطاله حضوراً خارقاً.

 

المسرحية عند تشيخوف

إن التوجه المسرحي عند تشيخوف، هو امتداد لفنه القصصي، ولقدراته التصويرية. ونحن نرى أبطال مسرحيات تشيخوف، في صراع عنيف مع الحياة، منفردين تارة، ومتحدين تارة اخرى. وتبدو هذه الظاهرة بصورة واضحة في مسرحياته، التي انحرفت عن الطريق، التي ساد عليها فن (الدراما) في زمنه. ففي القديم كان عنصر (الدراما) في زمنه. ففي القديم كان عنصر (الدراما) أو التمثيل قائماً على فكرة القضاء والقدر، الذي يسيطر من عل على الناس، يملي عليهم سلوكهم وتصرفاتهم، في صراعهم مع الحياة ومع أنفسهم. لأن الانسان القديم، كان خاضعاً لسلطات قوى خفية هائلة، يعجز عقله عن فهمها أو تعليلها. وعلى ضوء هذه القدرية، تبدو الطباع، وتتجلى النفسيات، ونتفاعل النفوس، في ملامستها للواقع واصطدامها به، واستسلامها له، أو انتصارها عليه. على أن هذه الفكرة الدراميةـ قد تطورت في الأزمنة الحديثة، منذ (شكسبير) حيث فك عن الانسان اغلال القدر، وجعل الطباع النفسية اعتباراً كدافع قوي. فتلاقي الابطال مسوقين في صراعهم، بعواطفهم ونداء الأعماق في الحب والبغضاء، الفضيلة والرذيلة، أو الخير والشر، يتصارعون على مسرح الوجود..

وقد حاد تشيخوف في مسرحه، عن فكرة القدر والطباع، واستعاض عنها بفكرة (الحياة) في مداها الواع العميق، في مشاكلها ومتناقضاتها، الظاهرة منها والخفية. أي أنه لم يعد للقدر والطباع، المكان الاول في ادبه، بل أسباب خارجة عن قدرة الانسان ورغائبه. فكثيراً ماتصطدم بحواجز واقعية، تنحرف بالمشاهد والخاتمة عن نهايتها المعقولة المنتظرة. فالحياة هي التي أملت الحلول، التي قد تبدو متناقضة، أو غير مقبولة، إذا مافسرت على ضوء الخطوط العريضة، لتطور الوقائع في القصة أو المسرحية..

وقد انصرف تشيخوف/ منذ سنة 1896- أي قبل وفاته بثماني سنين- بحماسة وشغف، إلى التأليف المسرحي. وقد لقيت مسرحيته (طائر النورس) فشلاً ذريعاً، في أحد مسارح (بطرسبورغ) أول الأمر. لكن بعد مرور سنتين، أعاد المسرح الفني في (موسكو) تمثيلها. فكانت فتحاً جدبداً في عالم المسرح، وتبعتها بعد ذلك مسرحيانه الأخرى (العم فانيا، الشقيقات الثلاث، بستان الكرز وإيفانوف) ولمسرحيات تشيخوف طابع شعري إنساني، يجعلها تتجاوب مع كل الشعوب، وفي كل الأزمان، ويرى النقاد أن بطل مسرحيات تشيخوف الرئيس هو (الأبدية) وإن الاحساس بالزمن الذي يتنسل. يكاد عند هذا الكاتب أن يكون مادياً.. (أفيدوا من الحياة) ذلك مايكرره لنا (أحسنوا تقويم الأيام التي حزنتموها).

 

اهم اعمال تشيخوف المسرحية

1\ بلاتوف 1881

هي العمل المسرحي الأول له، وفيه يسير ردود الأفعال العميقة، للسيكولوجية الفردية- وسلوك الوسط الاجتماعي حيالها.

2\ طائر البحر 1896

وهو طائر (النورس) رمز الروح المتطلع إلى التحليق في لانهائية السماء، وثمة لوحات كثيرة أساسية في هذه المسرحية، من أجل فهم زمانه وقدرته على التعبير عنه. والشعر المسرحي لأول مرة يسلط ضوءاً تاماً، على العلاقة بين الوجود والنجاح العملي، والوشائج العاطفية.

3\ العم فانيا 1897

وفيها يقترح تشيخوف تبريراً تاماً لوجود الشخص، ولاخفاقاته المحتملة، وهو شخص بمعنى مايخلع عنه القناع، ويفضح مأساته الحقيقية، وإن الذي يقود خطوان (العم فانيا) العابثة كان الرغبة المشلولة في التخلص من العذاب، الذي تنزله بنا الحياة.

4\ الأخوات الثلاث 1901

في هذه المسرحية يعلن تشيخوف، رفضه واحتجاجه على الواقع القائم، إنه صراع بين الواقع والطموح. فالشقيقات الثلاث غير قادرات على تجاوز الواقع المعاشي، الى ماهو أفضل. هن ذكيات وجميلات، غير انهن بحاجة الى (فعل) فالفكر دون العمل لا معنى له، والتطبيق العملي للأفكار هو المطلوب أكثر من الفكر نفسه.

5\ بستان الكرز 1904

تتحدث هذه المسرحية، عن سيدة صاحبة بستان الكرز، تعيش أزمة حادة، ذلك أنها لاتستطيع العودة، الى امتلاك هذا البستان، لأنه مرهون مقابل دين لاتستطيع إيفاده.. إنها مشكلة حقيقية، فالبستان رمز لجذور الانسان، وماضيه وثقافته وتاريخه، بكل ما يحتوى هذا التاريخ.. والابتعاد عن الجذور يعني الضياع.. وهكذا صاحبة البستان ضائعة.. والابتعاد عن الجذور يعني الضياع.. وهكذا صاحبة البستان ضائعة، فهي لاتستطيع العودة الى الماضي (البستان) ولاتعرف كيف تبدأ حياة أخرى، بمعزل عن (المستقبل) ولكن اليس بالامكان زراعة بستان جديد للكرز في مكان ما!. اليس هذا أفضل من النظر الى الماضي. والبكاء لأجله!.. ربما ذلك أفضل، وهنا يبرز الأمل من جديد في نهاية المسرحية.

 

تشيخوف والمرأة

 

كان تشيخوف في أغلب سني حياته، يفتقر الى المرأة، وهكذا سعى الى استعمال التعبير، عما يفكر به في مسرحياته.. وقد تزوج في وقت متأخر، ويعلل النقاد ظاهرة اهتمام تشيخوف بالمرأة، من زاوية حاجة الكاتب الى امرأة ترعاه، وتكون ملاذاً له.. وكان يتوق إلى امرأة، يجد فيها كل الصفات، التي يطمح إليها الرجل في المرأة، فالانسان (الرجل) بحاجة الى المرأة، وتشيخوف إنسان يحتاجها أيضاً.

 

 

تشيخوف والكتاب الأخرون

تأثر (مكسيم غوركي) كما هو معروف، بتولستوي وتشيخوف، لكن تأثره بالأول كان أشد وأبلغ وأمضى. والشواهد على ذلك كثيرة، ولاسيما كتابه الفريد (صور أدبية)

إن تشيخوف الذي اعتبره نقاده، عندما كان على قيد الحياة، كاتباً قليل التجديد. لكن سرعان ما اعترف به في المقابل كبار الكتاب، فقد نعته (تولستوي) بأنه نسيج وحده، واعتبره على هذا الصعيد، أرقى من (تورغنيف) و (ديستويفسكي) ومنه هو..

ويرى (غوركي) أن (تشيخوف) دفع فن التعبير، الى حدود البساطة، والى نقطة لم يبلغها أي كاتب آخر. وقد بين (كورولنكو) كما قال عنه: "إنني لا أعرف إنساناً شعر بأهمية العمل، كأساس لكل ثقافة وحضارة، كما شعر بذلك تشيخوف".

وكان بين الذين أطروا موهبة تشيخوف، أعلام كبار مثل (برنارد شو) و (توماس مان) و (أرنست همنجواي) وقال (فيتو بندولفي) الذي كتب (تاريخ المسرح) في اربعة أجزاء: "كان تشيخوف ممثلاً نموذجياً للمثقفين".

في أوائل العام المقبل (2020) يكون قد مر (160) عاماً على ولادة تشيخوف وإن ذكرى ميلاده توفر المناسبة للتفكير في ممارسة حياتنا، لنفيد منها على وجه أفضل، وهو القائل على لسان أحد أبطاله: "كنت قد قلت أن الحرية خير عظيم، وهي ضرورة لنا ضرورة الهواء الذي نتنفسه".

أجل .. لقد كان أنطوان تشيخوف قمة شامخة في عالم الأدب الروسي والأدب في العالم كله.