ننشر هنا ألفصل الأول من رواية ستنشر قريباً لفرانسوا باسيلي بعنوان "في مخدع الملك، في مذبح الإله"، الرواية من وحي الملك المصري القديم الشهير اخناتون الذي يعرف بأنه أول الموحدين في التاريخ، أي أول من نادي بفكرة الإله الواحد للكون، حيث أن في وقته كان للمصريين أكثر من أربعين إله، كل منهم له معابد وكهنة ومنظومة تعبدية ضخمة وقصص وأساطير تحيط بها، وأراد الملك الشاب أن يوحد رؤية المصريين حتي لا تتشتت وتتنابذ بالأديان فنادي بفكرة الإله الواحد وهو آتون..
نقدم هنا الفصل الأول من الرواية، وعنوانه "الجميلة أقبلت"
…………………………………………………………………………
-1- الجميلة أقبلت
الجميلة أقبلت .. هكذا هتف بقلبه ولسانه وهو يلهج إذ يراها تدخل عليه مخدع الملك المضاء بشعاع من القمر يدخل من طاقة مفتوحة في سقفه، فيبهره من جديد جسدها الفارع الذي يبرق من خلف ثوبها الشفيف الذي ترتديه غلالةً لا تخفي بل تضفي خيالاً خلاباً علي الواقع المحفوف بالوعود، تلك الوعود التي تزفها له زوجته حبيبته كلما أقبلت، وعود المساء والصباح، ووعود مشاعره وأفكاره التي تتقافز كالأطفال في ذهنه بلا توقف، حالمةً بعالمٍ جديد مضيء ناصع البهاء كجسد محبوبته، وهل هناك بهاء في نصاعة ومجد جسد المرأة الجميلة المغتسل بضوء القمر؟ هذا البهاء الذي ينسيه قبح صراعات القصر وجهامة الكهنة وتربص البصاصين وتكالب الحاشية التي حوله تنافقه بخسةٍ شد ما يحتقرها.
لا أحد حوله يصدقه القول ويمنحه الفرح النادر والجمال النقي سوي محبوبته وزوجته، كان يناديها دائماً ب "الجميلة أقبلت" حتي أصبحت العبارة هي اسمها نفسه الذي راح الجميع ينادونها به .. نفرتيتي، وهل سواها من تستحق أن تكون هي الجميلة المقبلة دائماً؟ أجاب بالنفي في قلبه الذي كان يخفق بأمواج المحبة المتدفقة.
الجميلة أقبلت .. راح يعيد الهتاف بصوت مرتفع غير عابيء بأن يسمعه من يسمع من الحرس أو الخدم الذين يذرعون أروقة القصر ليل نهار، والذي كان موقناً أن بعضهم يتجسس عليه لحساب كهنة معابد الآلهة العديدة التي صارت تلتهم ميزانية الدولة كما تلتهم روحها، يعرف أن الكهنة يتربصون به رغم العلاقة الرسمية بين المعبد والقصر، وكان ينظر باستهانة واشمئزاز لما يعدون في الخفاء من مؤامرات وفي العلن من صلوات يلعنون فيها كل من يحاول التصدي لسطوتهم المتمادية.
دأب بعد سنوات قليلة من اعتلائه عرش مصر بعد وفاة والده الملك امنحتب الثالث علي أن لا يكتم أي خلجة من خلجات نفسه المتأججة بالنشوة والأمل، مبدياً إحتقاره الصريح للزيف والخداع الذي ينهش أروقة الدولة ومعابد الكهنة، مستهزئاً بكل ما لا يعلي من الحقيقة، طارحاً عن قلبه كل ما لا يعلن الفرح والجمال علي الملأ.
ابتسمت له الجميلة المقبلة نفرتيتي إبتسامة مليئة بالنشوة والقبول رغم شبهة الممانعة والخجل الخفيف الذي لابد يشوب كل أنثي، كيف لا تفعمها النشوة حين يناديها حبيبها وزوجها وملكها بالجميلة كلما أقبلت عليه، حتي لو خالجها بعض الشك في أنه يبالغ في وصفه وكلامه الذي يخرج من فمه كالشعر، لكنها لا تشك قط في صدق مشاعره، فقد أكدتها أفعاله قبل أقواله، قلبه قبل لسانه، وروحه الحلوة المتوثبة بآمال المجد والوجد قبل أن يرتعش بها جسده المرهف الذي ترتجف كلما احتضنته كأنها تحتضن إبنها الطفل الذي لم ترزق به بعد.
الجميلة أقبلت .. هتف للمرة الثالثة بأعلي قلبه ولسانه في مرح طفولي قائلاً..أهتف باسمك ثلاث مرات أيتها الجميلة المقبلة لأن كل شيء بالثالوث يكمل، كما اكتمل الإله أوزوريس بزوجته ومخلصته الإلهة إيزيس وولدهما إبن الإله حورس، فازدادت ابتسامتها إتساعاً وهي تصعد إلي جواره في الفراش متمايلةً كفرسٍ في موكب الفرعون، فينسكب ضوء القمر علي فرعها العاجي الذي راح يتلألأ كالفضة، فيترفق ذراع الملك محيطاً بها في حنوٍ وشغف.
راحت تتعجب في نفسها كيف يقوم زوجها الملك دائماً باستحضار مثل هذه الأفكار عن الثالوث الإلهي وإيزيس وازوريس، كأنه يحضر معه إلي فراش المحبة كل آلهة الحب والخصب وأساطير الموت والحياة وأسرار السحر وألغاز الحكايات، إنه يدهشها بأفكاره الجديدة الغريبة، التي يمزج فيها أخبار القدماء بتاريخ المعارك والملوك بأسرار الآلهة وتفاسير أقوال الحكماء والشعراء والكهنة، ويدهشها أكثر بجرأته في التفكير والتعبير عن كل هذا بشكل مختلف لم تسمعه من فم أحد من قبل، هو شاعر وحكيم، وفارسٌ جريء، والأهم أنه حبيبها وزوجها.
رفع يدها إلي فمه وطبع قبلة طويلة كأنه بها يرتشف ندي حقول مصر ويتذوق فاكهتها الطازجة، فارتجف جسدها نشوةً وامتناناً، هل يمكن أن ينعم الإله آمون أو غيره من آلهة مصر علي أحد بمثل هذه السعادة المفرطة؟ وهل يمكن أن تدوم سعادة كهذه؟ هل سيبدل القدر سعادتهما بمصير مخيف يعده لهما أعداء المحبة والجمال؟
لعلها كانت تحمل داخلها قلقاً علي مستقبل لا يكون عادة في نشوة وجمال الحلم به، كيف تسني لها هذا الحدس الصادق الكاشف لسنة الحياة وخداع الأيام؟ تذكرت كيف كانت تسمع أمها تتوقف فجأة في منتصف ضحكها الصاخب وتقطعه قائلةً ليجعله آمون خيراً، وكأنها تستكثر أن تفرح فرحاً كبيراً أو حتي تضحك في مرح، ربما كانت أمها أكثر منها معرفة بغدر الدهر ومآتم الأيام.
من أسباب حبها الجارف لزوجها الملك أنه لم يلتفت إلي كونها من أسرة متوسطة ليست ملكية، ياتري هل اختارها لجمالها الفائق فقط؟ كانت تسأل نفسها، أم أيضاً لروحها القوية المتمردة التي تفردت بها بين أقرانها من الفتيات؟ ورغم الدرجة العالية من الثقة في النفس التي لديها كانت في دهشة دائمة من سبب هيام ملكها بها وهو سليل المجد الملكي والحائز علي العقل الفريد والروح المتحررة بدرجة كثيراً ما كانت تخيفها.
هل كان خوفها من مدي جرأته ومروقه مبرراً؟ هل ستندم في المستقبل لأنها شجعت ملكها علي التمادي في خروجه علي كل الأعراف والتقاليد، بل خروجه علي أديان كل المصريين أجمعين، بدلاً من كبح جماحه لتجنب أوخم العواقب؟ وكيف لها أن تقرأ المكتوب وهو مجهول؟ هل كانت حقاً راجحة العقل؟ أم كانت لا تقل عن ملكها نزقاً وتهوراً وتوقاً إلي التحرر مرة واحدة ونهائية من سجن التقاليد المميتة والإنطلاق نحو عالمٍ من الحرية البريئة المليئة بالدهشة والتجدد الدائم؟
بعد أن شبع مؤقتاً من تقبيل يدها راح الملك الشاب يستكمل نهله من نبيذ جسدها فيصعد بشفتيه ببطء إلي أعلي ذراعها ثم كتفها ثم عنقها العاجي الطويل الذي قال عنه مرة أنه عمود من الضوء يصل بين اللذة الأرضية في جسدها الشهي وسماء المعرفة في رأسها البهي، وقال أن عنقها هذا يستحق أن يخلد في تمثال سيطلب من تحتمس أعظم فنان في مصر أن ينحته لها وللأجيال القادمة، حتي يعرف الدهر كله كم جميلة ونبيلة هي الملكة الحبيبة نفرتيتي.
كانت تحب فيه شغفه بعقلها وليس فقط بجسدها، فهي أول من شاركها رؤيته الجريئة عن الإله الجديد الأعلي الذي رأي أنه هو وحده الإله الحق، وعن مشروعاته الطامحة إلي تغيير مصر بكامل تاريخها وحضارتها وأديانها وأساليب حياتها، والإنحياز التام إلي عالم جديد من الحقيقة والمعرفة والجمال، لكن حبها الجارف لهذا الملك الذي تحسد نفسها لأنه شريك حياتها كانت تصاحبه دائماً رياح القلق والتوجس، فكلما ازدادت السعادة إزداد خوفنا علي فقدها، كلما تمتعنا بنشوة الرؤية الخلابة من أعلي الجبل كلما كان هلعنا علي فداحة السقوط الهائل المحتمل.
……………………