مات الفيلسوف .. الأب الروحي .. الصديق النادر .. مات توفيق حنا.
في عام 2005 كانت المرة الأولى التي نتقابل فيها .. لم أتصور أن أقابل رجلاً يحمل كل هذا السلام في هيئته، وكل ذلك الهدوء في حركاته، وكل هذه القيمة في حواره.
كنت متردداً في اختيار المكان الذي سنجلس فيه ونتحدث، جعلته ( هو ) يختار المكان، فأختار مقهى شعبي في ميدان حلمية الزيتون بالقرب من مسكنه، وكان حواري الأول معه.
بدأ حواري معه بدعابة في غاية الرقة وهو يقول:
هي دي مصر .. تصور يامحيي أن منزلي في مصر يقع بين القاتل والمقتول؟ .. بين شارع سليم الأول وشارع طومان باي .. بين اسمين في التاريخ قتل أحدهما الآخر .. مصر دايماً متسامحة .. مصر أعظم من إنها تكره أحد.
ثلاث ساعات لم يتوقف فيها عن الغزل في مصر .. عشق مصر .. والتبتل في محراب قدسها الجميل .. ثلاث ساعات مرت كأنها ثلاث دقائق، قال:
أحببت صوفي لسبب ربما ستندهش له! .. كانت تقوم بتدريس الموسيقي .. في إحدى المرات سمعتها تعزف للأطفال في المدرسة على البيانو نداءات الباعة الجائلين في الشارع مثل نداء بائع الخوخ الذي يقول خوخ شراب ياخوخ .. ونداء بائع التوت الذي يقول ياتوت ولا عنب زيك .. كانت الموسيقى التي تنساب من مفاتيح البيانو الذي تعزف عليه ألحان الباعة الجائلين كأنها جزء من ضمير مصر وترديد الأطفال ورائها هذه النداءات بمثابة أعجوبة لم أصادفها في حياتي .. وكأنها كانت بهذه الحيلة الموسيقية تريد أن لا ينقطع الأطفال عن فطرة الشارع المصري والإنسان المصري وتزوجت صوفي.
لن أنسى حين عرفني على الأديب الكبير "نجيب محفوظ" على أنني إبن من أبنائه فنلت ثقة الأديب الكبير وثقة كل معيته من نخبة عمالقة الفن والأدب المرافقين له، فقد كان الأستاذ توفيق حنا صديق الكل وكان يثق فيه نجيب محفوظ ثقة كاملة ومن خلال تلك الثقة نلت مصاحبة الأديب نجيب محفوظ والذين معه حتى وفاته.
كان الأستاذ توفيق حنا أشبه بآلة البيانو .. يجيد عزف الكلمات بأي لغة .. فقد كان يجيد العربية والفرنسية والإنجليزية إجادة أهلها .. قال لي:
كنت بالمدرسة الابتدائية من شدة تعلقي باللغة العربية وأصول النحو والصرف يثق بي مدرس اللغة العربية في مراجعة النصوص لزملائي من الطلبة وكان من ضمن ما تتضمنه تلك النصوص آيات من القرآن الكريم كنت أصحح نطقها لهم !
كان من شدة همه بمصر منذ أن وعى بها في ريعان شبابه أن يرى أزمة منع المرأة من التعليم .. وقتها كان معلماً بإحدى مدارس قنا في صعيد مصر .. فقرر أن يخاطب مدير المديرية بالسماح لقبول أطفال ( إناث ) للالتحاق بالمدرسة أسوة بمن في مثل أعمارهن من الذكور .. حينها تردد مدير المديرية بحجة أن فعل كهذا ربما ستنتج عنه ثورة من الأهالي ضد مديرية التعليم كلها لكون تعليم الإناث غير شائع إلا في أوساط الباشاوات والبهوات .. ودعا الأستاذ توفيق حنا أن ينسى الأمر وأن يمشي الجميع ( جنب الحيط ) تجنباً لغضب الناس ! .. لكن هل أقتنع الأستاذ بما قاله مدير المديرية؟ بالطبع لم يقتنع .. لقد كان إيمانه بأن يتعلم كل أبناء مصر ذكوراً وإناثاً أعظم من ( حيطة ) مدير المديرية التي يريد من الكل أن يمشي ( جنبها ) ! .. وفي اليوم التالي أقنع الأستاذ توفيق حنا ( فراش ) المدرسة بأن يقدم لأبنته في فصل سنة أولى ابتدائي لتتعلم مثلها مثل الذكور وفي حال أقنع ( فراش ) المدرسة أصدقائه ممن هم أولياء أمور ( بنات ) في عمر أبنته أن يدخلوا بناتهم المدرسة فإنه – أي توفيق حنا – سيقنع وزير التعليم نفسه بالقاهرة أن يوافق على فتح فصل للبنات كأول فصل لتعليم بنات الفقراء في الصعيد، ووافق الوزير.
نظر لي الأستاذ توفيق حنا وهو يضحك وقد كان يضحك ببراءة الأتقياء .. وبروعة الأنقياء .. نظر لي وقال:
سنة 71 كنت في زيارة لمحافظة قنا ووجدت امرأة لا أعرفها تلهث ورائي وتنادي باسمي بصوت مرتفع .. قالت لي:
أنا زينب يااستاذ توفيق .. زينب بنت فراش المدرسة التي بسببك أصبحت ممرضة في مستشفى قنا العام .. لقد كان الفصل الذي أنشأته بسبع بنات فاتحة خير على الكل ولم تعد بنت واحدة في الصعيد كله إلا وتتعلم الآن مثلها مثل الذكور .. ثم مالت على رأسه وقبلتها فبكى توفيق حنا.
الآن .. وأنا أكتب بعضاً من هذه الملامح لذكرياتي معه .. وأنا أكتب هذا المقال .. أستشعر كما لو أنه جالساً بجواري .. يبتسم لي .. يستمع لي كما كان يستمع لي زمان .. لقد كان طيب المعشر .. عف اللسان .. شديد التسامح .. مصري للنخاع .. ووطني إلى حد العشق .. رحم الله المُعلم .. رحم الله الأستاذ الجليل توفيق حنا.
أنت .. ربما لست أنت على الإطلاق !
هل أنت واثق من نفسك؟ .. واثق من أنك أنت ( أنت ) وليس شخصاً آخر؟ .. تعرف نفسك عز المعرفة؟ .. أشك في هذا .. لماذا؟ لأنك مجرد مخزن ذاكرة .. إنهم يعبثون في كارت الميموري خاصتك .. فجأة ترى أحدهم فتتعرف عليه ثم يبادرك وتبادره بالقول هل رأيتك من قبل؟ ثم ينسى كلاكما الأمر .. كل المعطيات تؤيد استحالة أن تكونا قد تقابلتما من قبل .. انت ولدت وترعرعت في مصر أما هو فلم يغادر انجلترا إلا هذا الأسبوع الذي قابلك فيه .. تنتهيان من المحادثة القصيرة ويذهب كل منكما لحال سبيله .. لم يحاول أي منكما أن يبحث في ( الكاش ميموري ) العالقة بجسده ليتأكد من حدسه .. هل رأيت هذا الشخص بالفعل في مكان ما؟ .. هل تقابلنا رغم أنك لم تبرح مصر وهو لم يغادر انجلترا !! .. لقد قابلته بالفعل .. أؤكد لك أنك قابلته بالفعل .. بل وأؤكد لك أنك لن تتذكر متى قابلته وماهي علاقتك به أصلاً .. لماذا ؟ .. لأنهم يعبثون بذاكرتك !! .. فقط ينزعون ذاكرتك التي تحيا بها اليوم وتتذكر مافعلته بالأمس وربما الأسبوع الماضي ثم يبدلونها بذاكرة أخرى تحمل ماضي آخر وشخصيات أخرى ولغة جديدة تتحدثها بطلاقة فليس مهما أن تكون مولوداً في مجتمع عربي لكي تتحدث اللغة اليابانية وتسقط اللغة العربية تماما وتصبح لغة غريبة عنك!! .. لن تنسى .. فالنسيان فعل غير موجود في هذه الحالة .. فالنسيان هو فقدان تذكر مافعلته في الماضي .. وفي حال مايتم نزع الذاكرة فليس هناك ماتتذكره ..أنت بذاكرة جديدة تم تصميم ماضي خاص بك تصميم خاص جديد تماماً ستتذكر من خلاله ماضي آخر وأشخاص آخرين .. ماضى جديد ولن يكون هناك ماضي آخر سواه حالياً .. ربما يفعلوا معك هذا الفعل مرة وثانية وثالثة وربما مائة .. وربما لايفعلوه على الإطلاق .. إنها مجرد ذرات شديدة التناهي في الصغر تذوب في ذرات الهواء الذي نستنشقه وتتفاعل مع ذرات الكربون المذابة في الرئة لتندمج في كريات الدم النظيف الواصل للمخ فتقوم بمحو الذاكرة القديمة تماماً وأبدالها بذاكرة خاصة بهم .. التجارب وقفت عند مايسمى ( الزهايمر ) ومازالوا في محاولاتهم بضخ معلومات ( الذاكرة الجديدة ) مكان ماتم افراغه من الذاكرة القديمة التي حل محلها ( الزهايمر) .. ولقد نجحت وفلحت محاولاتهم على نطاق ضيق جداً .. جداً .. رغم انهم يجرون تجاربهم على النخبة فقط .. اشخاص بعينها لها مواصفات بعينها مبنية على خواص لها ثوابت معملية ومعادلات وحسابات من خلالها وخلالهم سيتم القبض على العالم .. ليس الكرة الأرضية بمفهومك الضيق .. ولا المجرة لو اتسع مفهومك قليلاً .. ولكن العالم بمفهومه الفيزيائي والظني وكل مايحويه فيما أمام العقل وماوراء العقل .. والنخبة يتم لها أحداث بعينها قد تظن أنها أحداث طبيعية أو أنها نتيجة نجاحات شخصية أو أنها .. أو أنها .. ولكنها ليست كذلك على الإطلاق .. إنها صناعة الصدفة التي تجعلك تظن أنك محظوظاً أولاً عمن هم مثلك وفي محيطك .. ثم صناعة صدفة لتدفعك باطئنان لقبول عرضهم دون أن تعرفهم أو حتى تعرف عرضهم .. على سبيل المثال تصبح طالب ماجيستير وعن طريق اعلان ( صدفة ) في جريدة لم تشتريها سوى اليوم ( صدفة ) أو تقرأه على الفيس بوك ( صدفة ) لدراسة الدكتوراه في تخصصك الذي أخترته بالصدفة وصادف أنه هو المطلوب لتكملة رسالة الدكتوراه في اليابان ( بالصدفة ) .. وتذهب اليابان باختيار تظن أنه اختيارك وبدرجات تظن أنها من وحي اجتهادك وتدخل الجامعة هناك مؤمناً أنك تستحقها بعزيمتك ولاتدري أن كل ذلك تم التخطيط له ربما من قبل أن تمسك قلماً بأصابعك النحيلة وأنت في عمر عامين أو ربما ثلاث سنوات .. إنها مقومات مدروسة بعناية ومن ثم لابد أن يحمل صاحبها خواص جسدية ونفسية وعقلية معينة .. تماماً كخواص المعادن النفيسة فيتم اختيارك .. ومن أول يوم ستقابل شخصيات كثيرة من جميع انحاء العالم كل منهم يدعي أنه بروفسير في علم معين .. سترى وجوه كثيرة جداً .. وجوه خاصة ووجوه عامة بعضها شاذ وبعضها مألوف وبعضها تتمنى لو لم تراه مره أخرى .. زحام .. فوضى .. حركة في كل اتجاه وضغط عصبي وتحديات وأرق وهواتف نقالة كل خمس دقائق ثم .... فراغ شديد .. وحدة لايمكن أن تتحملها في أول عطلة لنهاية الأسبوع .. سيتعمد من بيدهم الأمر أن يتجاهلوك تماماً لن يتحدث معك سوى التائهين أمثالك ممن قادتهم صناعة الصدفة لأن يكونوا مثلك .. أول عطلة لنهاية الأسبوع لن تزيدك إلا فوضى .. سيتم الضغط على الذاكرة .. ستتذكر كل ايامك واحلامك واصدقائك في وطنك .. ستتمنى لو عدت ساعة واحدة فقط للوراء .. للوطن ساعة واحدة فقط .. ولكنك لن تعود .. فقد تم اختيارك لمهمة استبدال الذاكرة .. أستبدال وليس محو .. لن تعود للوطن .. لن تعود أنت .. ستعود حتماً شخص آخر .. سيتفق الجميع أنك ماعدت أنت .. وربما لا تعود .. ربما لا تعود أبداً .. على الإطلاق .. وحينها ستكتب الجرائد انتحار عالم أو اغتيال بروفوسير .. والحقيقة ان العالم لم ينتحر والبروفسير لم يتم أغتياله .. الكل مازالوا على قيد الحياة .. الجميع أحياء يرزقون ولكن بذاكرة جديدة وخيال جديد وربما يأتي يوم نجد فيه أينشتاين أو مصطفى مشرفة أو سميرة موسى وقد شاهدهم البعض وهم يعملون عمال نظافة أو أصحاب بزينس في أعالي البحار ويتكلمون اللغة السواحيلي لأهل شرق أفريقيا !!!
أنا قلبي لو مش جدع كان اتمزع .. م الخوف
بيشوف تمللي الحقايق وياريته ما .. بيشوف
نصحته يوم يتغاضى .. بعض التغاضي عبادة
قال وازاي أسيب البلادة تلعب على .. المكشوف
لو دارت الأيام واتشقلبت فوق راس .. وجودك
وكل من هب ودب سب ولعن سنسفيل .. جدودك
لابد تعرف أن خوفك أزمتك .. من لازمتك
وإن إنت من غير الكرامة .. فرطت ياحلو في .. حدودك
على كل لون اترسم وشك يابو .. وشين
طب فين لون الكرامة تتلونه .. ياحزين
قاللي الزمن ده كده .. معدتش فيه الرضا
ومنين نجيب الهدى في عالم الـ .. مجانين