محيى الدين إبراهيم يكتب: كان بيني وبين السقوط كلمة

محيى الدين إبراهيم يكتب: كان بيني وبين السقوط كلمة
محيى الدين إبراهيم يكتب: كان بيني وبين السقوط كلمة

لا تثق في الثوار .. فأنت بين الطغاة لا حيلة لك .. الثورات عبر التاريخ تقوم بين طغاة وطغاة .. ثوار وثوار .. أحدهما حتماً سيستولي على عرش أخيه .. أما أنت .. فستعيش تحت حكم من ينتصر .. ستظل أنت كما أنت .. فالثورات وقودها أنت والحجارة .. أنت في كل ثورة .. هامش .. منسحق .. ضال .. وسيشعروك بأبواق إعلامهم المنتصرة منذ ألف عام أنك تعيش ( من خلال حكمهم الرشيد ) حرية .. حرية لا تعرف الموت !!

*******

كان يداعبها بقوله: وجهك كأنه منحوت من ابتسامة الخالق .. حتى وأنت حزينة .. يظل وجهك .. وكأنه منحوت من ابتسامة الخالق ! .. تلقي برأسها فوق كتفه وكأن قلبها تحول لقلب ( نبي ) وهي تهمس في أذنه: معك .. أنت .. لا حزن .. ولا خوف .. تمسك بيده منبسطة لتضعها فوق أحشائها فيربت برفق على ثمرة حبهما معاً.

*******

حينما اشتدت وطأة الخلاف بين الطغاة والطغاة اندلع القتال .. لم يتركوا بيتاً إلا خربوه .. نهبوه .. حولوه لكومة من تراب بعد أن أخرجوا أهله من ديارهم.

*******

قرر أن ينجو بها .. لا أن ينجو بنفسه .. هذه المرأة الحياة .. لابد لها أن تعانق الحياة .. انطلقوا ( حفاة ) معاً .. هربا معاً .. كانا حتى تحت قصف المدافع معاً .. لا يحملان إلا جنيناً في أحشاء المستقبل .. وقليل من خبز جاف.

*******

كان الظلام حالكاً .. وضاقت عليهم الأرض بما رحبت .. كانت خائفة .. كانت تتشبث بذراعه كما يتشبث الرضيع الجائع بثدي أمه .. ارتمت فجأة من شدة التعب والبرد فوق كثبان رملي .. تمنى لو مزق جسده ليدثرها به فيقيها من البرد .. وحين غفت وضع رأسها فوق ساقه وأخذ يتأمل وجهها النائم .. وجهها .. وكأنه منحوت من نور قمر ! .. ( هي ) وقود الحياة الوحيد الذي سيعينه على الاستمرار.

*******

حين استيقظت قرر حملها فوق كتفه ويسير .. هذا الجمال .. هذا الكائن ( الدقيق ) لا يحتمل مرارة السير في الصحراء .. سار بها يومين ( حافياً ) .. وكانت هي ( منغرسة ) في جسده بقدميها المعقوفتين فوق صدره من شدة الخوف .. وذراعاها ملتفتين حول عنقه .. كانت تصحو وتغفو وتطلب منه دوماً أن يستريح .. لكنه .. لم ينهكه حملها .. ولن ينهكه حملها .. إنما ما ينهكه هو فكرة أنه يسير على غير هدى.

*******

كانت خطواته تتباطأ .. وقلبه يتسارع .. وحين أقترب الوقت من اليوم الثالث في منتصف الليل .. رأى عند مدى بصره نور .. قبس وكأنه الهُدى .. طوق نجاة وكأنه سفينة نوح .. خلود الجنة وكأنه في معية الصالحين .. جثا على ركبتيه حين سمع موتور سيارة تتجه نحوهما .. كانت نقطة عسكرية لحدود دولة مجاورة .. أنزل ( زوجته ) من فوق كتفه .. احتضنها وكأنه يخفيها ليس منهم ولكن من أي هاجس خوف قد ينتابها هي ويخشى هو عليها منه .. أخذ يرقب ما ستئول إليه الدقائق القادمة بإعياء شديد .. وقفت السيارة ووجهت أضوائها الأمامية نحوهما .. نزل منها خمسة جنود مدججين بالسلاح المصوب إليهما .. اقتربوا منهما .. علموا من هيئتهما ما هما عليه .. وما هو عليه وطنهم .. أعاد الجنود بنادقهم خلف ظهورهم بينما هرع آخر ليأتي بقارورة ماء للرجل الذي أهلكته الصحراء حاملاً امرأته فوق ظهره .. كان مازال ينظر إليها بكل العشق الذي يعرفه .. يحتضنها بقلبه .. بحواسه .. بروحه .. كان لا يريد أن يتشتت بصره بالماء الذي أتاه الجندي عن رؤية ذلك الوجه الذي لطالما عشقه عشق الخالدين .. حاول الجندي أن يضبط من جسده المنهك ليلقي في فمه بضع قطرات من ماء .. كانت عيناه جامدتين على وجهها لا تبرحانه .. كانت عالمه الذي لا يريد أن يغادره .. كان وجهها الذي لطالما رآه وكأنه منحوتاً من ابتسامة الخالق هو آخر ما أراد أن يحتضن رؤيته قبل رحيله الأخير .. مبتسماً وهي فوق صدره تبكيه بينما كفه الأيسر منبسطاً ناعماً فوق أحشائها .. فوق ثمرة عشقه الوحيد .. في وداع صامت .. وقصة لا يعرفها أحد !!

*******

حين ضاع الوعي بسبب عشق إمرأة إغريقية عند جذع شجرة قال:

( هو ) الذي هو ( أنت ) الجالس عن يمين ( هو ) ولكنكما .. واحد !!

أحدكما سيخضع للآخر ولكنكما .. متساويان !!

رفع أحدكما الآخر إلى السماء، ولكن لا تمايز بينكما ولا في قدراتكما !!

جعل أحدكما الآخر ولكنّ .. كليكما جوهر واحد !!

أحدكما مولود من الآخر، لكن، قبل الولادة، كان كلاكما موجودًا !!

من له المعالي تم ربطه في جذع شجره وتم قتله !!

( هو ) أعظم من ( أنت ) وحيث ( أنت ) هو ( هو ) !!

( هو) يعلم الموعد !! و(أنت) الذي هو (هو) لا تعلم الموعد، ومن ثم لا يوجد إلا ( هو ) فقط ولكن، هو ( هو ) وأنت أيضاً ( هو ) والروح التي تجمع بينك وبينه ( هو ) أيضاً، ومع ذلك لا يوجد إلا (هو ) واحد فقط .. رغم أن الظاهر يقول بثلاثة كل منكم (هو) !!

( هو) الوحيد «الَّذِي (مِنْهُ) الجَمِيعُ » جعلك أنت الوحيد «الَّذِي (بِهِ) الجَمِيعُ »!!

وحين تموت .. ربما تظن أن ( هو ) تركك لتموت عند جذع الشجرة، فتصرخ: يا (هو) .. يا (هو) .. لماذا تركتني أموت عند جذع الشجرة ؟ .. ولكن .. لما لن تجد إجابة من ( هو ) ستستسلم .. ستلقي برأسك بين كفيك .. ستذرف الدمع وأنت تقول: يا (هو) .. أضع روحي بين يديك .. ثم تموت .. تكفيراً لك عن الأكل من الشجرة، وحيث اليوم .. تموت .. عند الشجرة !

*******

منذ أن تكسرت أجنحتي في صعودي للسماء .. لم أسقط على الأرض .. كان بيني وبين السقوط كلمة .. ولم ينطق الكلمة .. فصرت معلقاً على القمة كسيزيف .. لكن .. ليس لدي صخرة لألقيها من فوقي .. ادحرجها لتسقط فأسقط معها .. ثم أعيد حملها فوق ظهري لأعاود الصعود .. ثم ألقيها من جديد .. أحملها وأصعد .. وأدحرجها وأسقط .. بلا انقطاع .. ولا أمل .. ولا رحمة .. في عذاب تافه ازلي .. ادرك معه قيمة الفرق بين الموت والحياة .. لم ينطق الكلمة .. ومازلت معلقاً بين السماء والأرض .. ليست كالسماء .. وليست كالأرض .. في انتظار .. أمر الهبوط .. إهبط منها .. بعضَك لبعضِك .. عدو !!

*******

نظر آدم إلى حواء وهو لا يفهم كيف سيكونا أداة للبث بينما لا يعرف من أين جاءت .. كانت تشبهه تماماً إلا من فرق بسيط .. ساحر ..هو لا يفهم هذا الفرق أيضاً .. هو لا يحاول أن يترجمه .. كثيراً مايكونفي ترجمة الألغاز .. ضياع قيمة اللغز نفسه .. فالسحر غامض .. وقيمتة .. في غموضه .. كنت أنظر لآدم وحواء من نافذة الحكاية .. رغم انشغالي الخالد بنظرة عينيها .. وهي تضحك كطفلة .. إنشغلت بها حتى نسيت أن أصرخ في وجه آدم أن لا يأكلا من هذه الشجرة .. فعصيت حتى ظهرت سوأتي .. فهويت هابطاً معهما للأرض .. استقر آدم .. بينما .. أنا .. مازلتأهوي ساقطاً منذ الأزل !!

*******

حين أغفو داخل ظلى .. حين تكون غيبوبة الوعي وجود آخر .. لا أشعر بالغربة .. فهذا العالم المختفي في فراغي .. كاختفاء النور في الضوء .. واختفاء المعنى في الكلمة .. واختفاء القوة في الإرادة .. يراودني كل وجود .. وجهك ليس مألوفاً لكنه يؤنسني .. ربما حتى لا تسحقني الوحدة .. لم يراودني خارج الظل لأعرفه .. لكن كلما اقتربت يبتعد .. وكلما ابتعدت يقترب .. إنه يحافظ على نفس مسافة الضلال التي تحاصرني لأقفز منها إليه .. يحافظ على نفس سرعة المجون العالقة بأحشائي لألفظها فيحتويني .. يحافظ على نفس زمن الإنحلال الذي يستوطنني لأغترب فيه فأنتمي .. ببساطة .. يدفعني للهمجية لأستحضره .. يحاصرني في ( مشهد ) اللجوء لكهوف الغابة الكثيفة في أعماقي .. ربما أرى مآساتي .. أشهد ضالتي التي أجهلها فأعرفه كما يعرفني .. أعْرِفُهُ .. أعْرِفُ ( هُوُ ) .. حتى تأتي النجدة .. فأكون.

*******

وحيدة في غربتها .. بعد أن ضاق بها الوطن .. بعد أن انغلقت قلوب الناس .. بعد أن أعتلى الغضب أسطح النفوس .. باستثناء وحيد .. هو .. هو فقط .. هو الذي يحمل قلب طفل .. روعة إنسان .. أخلاق فارس .. لكن .. وقبل أن يسيطر عليها حزن الاشتياق إليه .. مدت يدها لعلبة ( المنوم ) الموجودة بجوار وسادتها .. لتأخذ القرص الذي اعتادت عليه كل ليلة .. قرص واحد كفيل بأن يجعلها تنام دون أن يسيطر عليها الخوف .. دون أن تسيطر عليها أفكار لا ترغب أن تعيش الوجد فيها .. نامت .. وفي حلم وحيد راودها في تلك الليلة .. رأته .. كان مبتسماً .. قادماً من مكان اغترابه المجهول .. حين رآها .. احتضنها بقوة .. قفز بها في السماء .. هي أيضاً .. تشبثت بعنقه حتى غطى شعرها كامل وجهه .. تناثر عطرها وقلبها وعمرها كله في كل كيانه .. إزدات قفزاته بها في الهواء .. أخذت تدور معه وتقفز بفرح .. توقف بها فجأة .. نظر في عينيها بعشق العالم كله .. جثا على ركبته .. أخرج من قلبه علبة صغيرة .. فتحها .. بينما عيناها تلمعان ببريق نور الكون .. أخرج خاتماً من ذهب .. أعطاه لها وهو يقبل أناملها الدقيقة .. صرخت فرحة غير مصدقة .. حتى أفاقت من نومها على عمق صراخها الملئ بالجنون والفرح .. نظرت بجوارها .. حولها .. لم تجد سوى وحدتها وغربتها .. وقبل سقوط دمعة شجن من عينيها وهي تطفئ نور الأباجورة لاحظت شئ في قبضة يدها .. اعتدلت لتجلس وهي خائفة .. فتحت كف يدها .. انتابها الذهول .. إنه الخاتم الذهب الذي وهبها إياه في الحلم .. نظرت للخاتم بتوجس .. بحثت في أرجاء المكان فلم تجد سوى الوحدة والغربة .. نظرت للخاتم مرة أخرى بتوجس .. ابتسمت .. لمعت عيناها لمعة طفلة في العاشرة من عمرها وهي تردد: لكل منا معجزة صغيرة .. ربما تلك معجزتي الصغيرة .. وضعت الخاتم على شفتيها لتقبله قبل أن تضعه في اصبع يدها ( أليسري ) .. اختارت كرسي قبالة النافذة .. جلست وقلبها ينبض بكل عشق البشر .. نظرت من النافذة عبر الشارع .. في انتظار قدومه المستحيل !