في 14 يوليو عام 1789م في باريس حين أبلغ ليانكورت لويس السادس عسر ملك فرنسا آنذاك بسقوط سجن “الباستيل”، وتحرير بضعة سجناء منه، و”تمرد” القوات الملكية قبل وقوع الهجوم الشعبي، قال الملك في غضب: إنه “التمرد”، فصححه ليانكورت قائلًا: “كلا يا صاحب الجلالة، إنها الثورة” !
وحتى ذلك التاريخ لم يكن العالم يعرف معنى كلمة ثورة، وكانت تُعَّرَف كل حركة شعبية تحاول إسقاط النظام في العصور الوسطى بأنها درب من دروب “التمرد”.. وعادة ما كان الحاكم يعطى لنفسه شرعية الدفاع عن نظامه بكل السبل، حتى وإن كانت هذه السبل القمعية غير شرعية! وعادة أيضًا ما كان الهدف من هذه الحركات هو “استبدال” حاكم سيئ بحاكم جيد –حسب معاييرهم الخاصة طبعًا- أو “استعادة” السلطة من حاكم “مُستبِد” أساء استخدامها بـ”حاكم قانونى”!
وعلى مدى التاريخ كانت الثورة تقوم ضد الشخص الذي يبقع على قمة الهرم السياسي، أي “الملك”؛ بزعم إسقاط النظام.. وحينما تنجح تلك الثورات في “إزاحة” الملك عن السلطة، فعادة ما كان يقاس نجاحها بقدرتها على “استعادة النظام” الذي أطاحت برأسه!
إلا أن الثورة الفرنسية كانت الثورة الأولى التي أعطت الشعوب الشرعية الأخلاقية والدستورية في الثورة على الأنظمة الفاسدة، وكانت هي الثورة الأولى تاريخيًا التي تمكنت من تغيير النظام، ووضعت قالبًا معرفيًا جديدًا لمفهوم الثورة.. وعَلَمَتنَا أن أي فعل شعبي لا يمكن أن يأخذ “لقب ثورة” إلا إذا تمكن الثوار من تغيير النظام برمته، وأن يأتي للبلاد ببداية جديدة أو نظام جديد يحكمها!
ورغم النجاح الفريد الذي حققته الثورة الفرنسية، فإنها اختزلت أهداف الثورات في المطالبة بـ”الحرية” وأنه لا يمكن وصف أي حركة شعبية ضد النظام بأنها ثورة؛ إلا إذا كان هدفها “التحرر” من استبداد الأنظمة الفاسدة، وذلك بعكس “الثورة الأمريكية” التي كان شعارها “عالم بلا فقر”! ومنذ قيام هاتين الثورتين وحتى الآن، لم يُستَعبّد الشعب الفرنسى من أنظمته الحاكمة.. ولم يُفتَقَر الشعب الأمريكى، رغم أن نظامه تسبب في إفقارِ كثيرٍ من الشعوب!
فتاريخ الثورات يُعَلِمُنَا الكثير.. لكننا حين فكرنا في الثورة لم نكن قرأنا تاريخ الثورات.. وحين قرأنا يبدو أننا لم نستوعب الدروس جيدًا.. وأفضل ما ما تضمنه ذلك التاريخ من رسالات، هو أن الثورات مهما بلغ نجاحها فمن المستحيل أن “تُحَوِّل العامةَ إلى حُكَامٍ”.. وأن الشعب حين يثور، فبإمكانه أن يحدد النظام الذي لن يحكمه.. لكنه لا يستطيع أبدًا أن يحدد النظام الذي سيحكمه.. فعادة ما تنجح الثورات في إسقاط النظام الذي يكرهه الشعب.. لكنها عادة ما تفشل في الإتيان بالنظام الذي يريده الشعب!
ويُعَلِمُنَا التاريخُ أيضًا، أنه لا توجد “ثورات بيضاء” فعادة ما تقترن الثورات بـ”العنف” وأقصد العنف والعنف المضاد -بصرف النظر من أي جهة بدأ- وأن الناس حين تثور على الحاكم وتأتى بغيره، لا يوصف هذا الحدث بالثورة، فحينما ثار “كرومويل” وذبح ملك إنجلترا في القرن الثامن عشر، لم تسمّ هذه الحادثة بـ”الثورة”!
ومن ثم فقد علمنا تاريخ الثورات أن التغيير بـ”الصناديق” عادة ما يكون أسرع وأكثر أمانًا من التغيير بالثورة، حتى وإن كلفنا الوصول إلى ديمقراطية الصناديق سنوات من التعليم الجيد باهظ التكلفة.. والغريب في الأمر أن الغَرب الذي يُغَيّر مَصيره بـ”الصناديق” لا يزال يُصدر إلينا مفهوم الثورة كأداة فعالة لـ”التغيير الآمن”!
وفى ضوء أدبيات الثورات، يهل لنا أن نتسأل بعد مضى ستة أعوام على 25 يناير/ عما إذا كانت 25 يناير “ثورة “ أم “تمرد” على حاكم وصفه الثوار بالمستبد؟ خاصة أنها حسب كتابات المثقفين أنها نجحت في الإطاحة بمبارك، رغم أنها لم تنجح في إسقاط نظامه!
وهمنا لا يجب أن نتعجل بالإجابة.. فحسب مفهوم الثورات، فإنها “ثورة” أتت بـ”الإخوان” كنظام بديل مغاير لنظام مبارك.. وبنفس القياس فإن 30 يونيو ثورة لأنها أطاحت بالإخوان وأتت بنظام بديل مغاير.. وهنا يطرح السؤال نفسه، إذا أسقطنا فترة حكم الإخوان، وقارنا بين النظام الحالى كبديل لنظام مبارك.. هل يمكن اعتبار 25 يناير “ثورة” ؟! أم أنها بمثابة تمرد شعب على حاكم سيئ، وتنصيب حاكم أفضل؟!
وعمومًا.. ورغم أن الرئيس “السيسي” قد أكد أنه لا يمثل نظاما وإنما هو شخص يحكم البلاد لفترة معينة، في إشارة منه صريحة لسقوط “دولة الأنظمة” وإحياء “دولة الحقب” أو فترات الحكم المنفصلة؛ فإنه لا يمكننا الحديث الآن عن ثورة يناير، لأنه انتهى الحديث عنها بالفعل؛ بوصول الإخوان إلى الحكم -بصرف النظر عن المؤيدين أو الرافضين - فحكم الإخوان هو “حصاد يناير”، وعلى الثوار الحقيقين أن “يُقَيِّموا” ذلك الحصاد.. هل كان في صالح مصر وهدفا أصيلا للثورة، أم أنه كان “حصادا مَسمُوما” كاد أن يفتك بحاضر الوطن ومستقبله؟!
ربما خدعنا ميدان التحرير حينما جمع حوله أطياف الشعب لتغيير نظام مبارك، بشعارات أعطت للشعب “الأمل” في الحرية والعيش والكرامة الإنسانية وتحقيق العدل بصورة جعلته “رمزًا”.. ففى حين جعله الثوار الحقيقيون رمزًا لإسقاط الأنظمة المستبدة، جعله “الثكالى” رمزا لضياع فلذات أكبادهم، وجعلته “الأغلبية المحرومة” رمزا لضيق العيش والانفلات الأخلاقى وضياع الأمن... فتَحَوَّل الميدان من رمزٍ لـ”التحرر” في نظر البعض، إلى رمزًا لـ “النكبة” في نظر الأغلبية!
وكما خدعنا “الميدان” بشعاراته البراقة، فقد خدعناه حين انسقنا مع تيار الثورة الذي لا يجف، وحين سمحنا لنسيجنا الوطنى بالتشرذم، وحين أعًرنا عقولنا لــ”إعلامٍ” تخصص في تثويرنا.. خدعناه حين اكتفينا بالثورة على الحاكم واستسهلناها، ولم نثر على أنفسنا، لنأتي بالمواطن المصرى الجديد، القادر على التغلب على نكباته لا بالثورة وإنما بالعمل والإنتاج والتعليم الجاد!
وختامًا، لن تنجح الثورات في بلادنا ولن تتوقف أنهار الفقر عن التدفق.. إلا إذا تبنت الدولة سياسات تحفز الفقراء على العمل والإنتاج.. وسياسات تحفز الحكومة على تطبيق العدل.. وسياسات تكف أيدى المسئولين عن الفساد!