تعلمنا في مدارسنا إلزامية احترام العلماء.. وأن العلماء هم مصدر المعرفة. لكنهم لم يخبرونا بشيء عن الحكيم.. وكيفية صناعته.. وأيهما مقدم على الآخر في بناء الأمم ونهضة الشعوب.. وإذا وُجِدِ الاثنان في مجلس واحد، فأيهما نقدم على الآخر.. العالم أم الحكيم؟
لا أحد في قريتنا كان يسبق المدرسين وشيوخ الجوامع في ادعاء المعرفة.. فهم في نظر البسطاء الأعلم بشئون الدنيا والآخرة.. حتى إنهم كانوا يتهمون الشيخ “شحاتة” والشيخ “عشرى” مقرئى القرآن بامتلاك “المعرفة المطلقة” لا لشيء سوى لأنهم يحفظون القرآن ويتلون آياته في الأفراح والجنائز وعلى أعتاب القبور!
لم نكن في طفولتنا بارعين في التمييز بين العَالِمِ والحكيم.. لم نكن نعرف أن “العَالِمَ” كلما كُبرَ علمُه ضاقَ “أُفُقُهُ”، وأن “الحَكِيمَ” كلما كثرت تجاربه اتسع أفقه.. وكنت في صغرى مشغولٌ بكتابات الدكتور “مصطفى محمود” والأستاذ “خالد محمد خالد” والشيخين “محمد الغزالي” و”عبدالحليم محمود”.. فمن خلال قراءتى لعقلية تلك النخبة اتسعت لدىَّ أحداق الرؤية، وبدأت التعمق في دراسة وتحليل أنماط الشخوص في الجزيرة.
وتساءلت لماذا انفض الناس عن مجالس الأعيان في الجزيرة.. وراحوا يتزلفون إلى حيث يجلس “خَنُورَة” عند “عشة محظية” على حصيرةٍ بالية، صُنعَت من الحَلف الطَرِي؟!
كان “خَنُورَة” يعمل “جمالًا” في القرية وكانت جلسته المفضلة أعلى “مصطبة” صنعت من الطين، أمام “سِندّية” أي باب من الخوص لـ “عشة محظية” متكئًا على ذراعه اليمنى، وواضعا قدمه على الأخرى، وأسفل مصطبته قبيل أذان المغرب يجلس بسطاء القرية ويستمرون في جلستهم لبعد صلاة العشاء بفترة قليلة. بعد يوم شاق قضاه الفلاحون في الحقول.
سألته ذات يوم: ما الذى جعل الناس يتهافتون إلى مجلسك يا عم “خنورة”؟! فأجابنى: إنه “الصمت” يا ولد.. لا أملك شيئا سوى قدرتى على الاستماع.. ففى مجالس الأعيان والعُمَد لا يتكلم البسطاء أمثالى.. فقط يسمعون.. أما في مجلسى فيتكلم الجميع. وأسمع وحدى.. ليس لدى مالا كى أُعِيَره للغلابة.. لا مصلحة تُقِيمُ علاقتنا.. فقط أُعيرهم “أذنا” تسمع و”ابتسامةً” وبعضًا من الاهتمام..
أنا “سَلّة الهُمُوم” في هذه القرية.. أنا الرابط.. وأنا الُمشترَك. الناس لا تحتاج فقط إلى المال كى تعيش.. الناس قد لا تحتاج سوى لأذنٍ تنصت إليها باهتمام!
ومنذ تلك اللحظة صِرتُ أتتبعُ خطى العم “خَنُورَة” كان يومُهُ شاقاَ.. ورغم أوجاعه التي لا تنتهى؛ كانت ابتساماته دائمًا حاضرة.. سألته يوما لماذا اخترت أن تكون جمالا.. رغم مشقة المهنة وبؤس أصحابها.. فكان يجيبنا في سعادة: تمنيت منذ الصغر لو خلقنى الله سلطانًا.. والسلطان يحتاج إلى “سلطنة” فاخترت “سلطنة الصمت”.. والسلطان يلزمه عرش؛ وأنا لم أجد عرشًا أنسب من ظهر البعير!
وقال: أنا سلطان البسطاء أمرُّ في شوارع القرية كالملك.. وأمضى بجملى بين الغيطان كسلطان.. يستقبلنى الناس بالتحيات.. إذ ننى أمتطى جملا أشد حياءً من البشر.. فلم تره يوما يطارد “ناقة” أو يتحرش ببقرة.. إنجابه عزيز.. وقدرته على التحمل لا يطيقها بشر.. جملى صامتٌ دائمًا.. لا يثور إلا من غباوات البشر!
أنا لا أحب تربية “الحمير والأحصِنّة” فإنهما كالطبول.. لا تسمع لها صوتا إلا إذا كانت فارغة.. قلت له قديما كانت الخيول “الخِصى” لا تصهل يا سلطان.. لكن باتت الآن الأكثر ضجيجًا!
عادة ما كان “خَنُورَة” يقول إن جمله هو صديقه الأوحد.. وإنه إذا كان هو كاتم أسرار البسطاء فإن جمله هو كاتم سره الأوحد.. رغم أنه يظهر دائما وكأنه إنسان ليس له سرٌ يخفيه.. فقلت له سائلا: أتحب جملك لأنه يحملك؟ فشاح بوجهه بعيدا عنى، وقال بصوت أقرب للتمتمة: لا تدرى أينا خُلقَ ليحمل الآخر! ثم أدار وجهه إليَّ وقال: الأجساد هي أخف الأحمال يا وَلد.. وأثقلها أن تحمل “هَمًَا” أو أن تكون مسئولًا عن “بطنِ” مخلوق.. فتبسمت في وجهه وقلت: أو أن تكون مسئولًا عن عقله!
كان “خنورة” يشعر دائما بأنه سلطان.. وكان يقدم نفسه دائما بأنه السلطان خنورة.. لم نشاهده يوما حافيا -كسائر العاملين في الفلاحة- أو بدون عمامته البيضاء.. وحين كنا نسأله عن ذلك يقول: أقدام السلاطين كرءوسهم “عَورَةٌ”.. لا يجب أن يراها العوام!
لم ينشغل “خَنُورة” يوما بأنه لم ينجب ولدا يورثه الجمل.. وكان يقول: كثيرا ما تسبق الممالك الملوك إلى القبور.. لا ندرى أينا يسبق الآخر.. أنا أم الجمل.. فأنا لم أرث جملى.. لكننى ربيته صغيرا. وأخاف إن ورثته لوَلَّديِ فيُضيعُه.. دعوا كل إنسان يأتى بالجمل الذي يحمِله.. فقلت له: أو يحمله!
كانت مهنته “كجمال” شاقة.. لكنه كان بارعًا في أن يجعلها مبهجة، فلا يخرج بجمله أبدا للعمل في وقت الظهيرة.. عادة ما كان يعمل في الصباح الباكر وبعد صلاة العصر.. وحين يعود محملا بالمحاصيل؛ يستقبله النساء والأطفال بالدفوف والزغاريد.. وكذا كان يستقبله الناس في الأفراح حين يضع “هودج” العروس على ظهر البعير!
لّم أرَ يوما علامات الخوف على وجهه البشوش.. عادة ما كان يعشق السير ممتطيًا جمله في ساعات الغروب بين الزروع وعلى شاطئ النهر.. ليرسم صورة حيّة لمواطنٍ مصرى بسيط.. يحمل على ظهر بعيره حضارة أجداده العظام دون تحريف أو مزايدة.. ينقلها بجمله البسيط مثله من عصر إلى عصر!
رغم جيوبه الفارغة؛ إلا أنه كان شامخًا بكرامته إلى عنان السماء.. يكرر دائمًا: أن حامل الأفراح إلى قلوب الغلابة والمساكين.. الحمد لله أن جعل لى جملًا لا يحمل مرضى.. الحمد لله الذي جعل لى جملا لا يحمل موتى.. الحمد لله الذي جعلنى سلطانًا بلا سلطنة.. يستقبل الناس قدومى بالأفراح والزغاريد!
كنت أعرف أن الحكمة فقط في جملة الأفعال والنصائح التي يقدمها لنا عجائز القرية.. لكننى عرفت مع “خَنُورَة” أن الصمت في كثير من الأحيان أبلغ أنواع الحكم.. سألته مرة: كم مرة حمدت الله فيها يا عم “خنورة” فقال: في كل مرة سجدت لله فيها بدون خوف أو وجع.. وفى كل مرة توضأت فيها من ماء النهر وصليت على شاطئه بلا خوف.
وكم مرة تمنيت فيها الموت بلا رجعة؟ فيقول: في كل مرة ذَبُلّت فيها أوراقُ الأشجار التي كان قد زرعها أبى!
وفى آخر مرة التقيت به فيها، وكان الزمن قد ترك على وجهه علامات نهاية الرحلة.. سألته: ماذا تفعل إن سبقك جملك إلى القبر يا “سلطان”؟ فقال لن أشترى جملا بعده.. ولكن اطمئن يا وَلد.. فقد اتقيت الله فيه فلن يزول ملكى أقصد جملي قبلى. فقلت له ضاحكًا: أو ربما هو الذي اتقى!
رحلت أنيابك قبلك إلى القبر يا خنورة. فلماذا لم تأت بغيرها يا رجل؟ فقال: “السلاطين” لا تحتاج إلى أنياب كى تعيش.. فأنيابها مزروعة في خشوم الحاشية.. لا تقلق يا وَلد.. فالسلاطين لا تموت من قِلّة الطعام.. فعادة ما يقتلها الفكر.. وعادة ما يقتلها شدة الحرص.. وعادة ما يقتلها الخوف وفقدان الإحساس بالأمان!
كان أقاربه يدفعونه دائما إلى الزواج بثانية؛ لينجب ولدا يحمل اسمه، ويحمله على كتفه عند الرحيل.. أو لكى يصبح أخا لبناته كما كانوا يقولون.. وكان “خنورة” يقابل دعواهم بالرفض قائلا: عشت سلطانا.. وسوف أموت ميتة السلاطين. لم أنجب ولدا يقف في جنازتى.. لكن سوف يتسابق الأعيان إلى موكب العزاء.
وفى “عيد شم النسيم” راح “خَنوَرة” بجمله في الصباح يستقبل الماء الجديد كعادة أهل القرية.. وإذا به يرى عن بعد شابا يصارع الغرق.. فبدون أن يخلع ملابسه، وبدون أن يفكر في كونه لا يعرف العوم.. دفعته “مروءة البسطاء” إلى إنقاذ غريق لم يعرفه.. فأخذه الغريق إلى أعماق النهر.. فمات “خنورة” غرقًا في بطن النهر الذي كان يعشق الجلوس على شاطئه، وفى أحضان ابن “العمدة”، الذي كان يعايره دائما بأنه لم ينجب ولدا يحمل اسمه!
وفضت القرية عيدها مبكرًا.. وراحت تشيع الغريقين.. وراح الأعيان من كل القرى يهرولون لمشاركة العمدة أحزانه الغالية في فقدان ابنه الوحيد.. تقدم نعشُ “خَنُورَة” وسار من خلفه المشيعون –البسطاء والأعيان في المقدمة- ووقفت أنا و”الجمل” نتذكر سويًا آخر ما قاله “سلطان الغلابة”: لا تقلق يا وَلد.. عِشتُ سلطانًا.. وسوف أموت ميتة السلاطين!