محيى الدين إبراهيم يكتب: منير المجنون !

محيى الدين إبراهيم يكتب: منير المجنون !
محيى الدين إبراهيم يكتب: منير المجنون !

زمان .. لما كنا صغيرين .. حين كنت طالباً بالهندسة .. كنت شغوفاً بالمسرح .. ولأنني ( ممثل ) فاشل بكل المقاييس .. ولا أجيد ( حفظ ) حوارات كتبها أحد غيري .. وكنت أنساها على المسرح وأرتجل من عقلي حواراً أقوم بتأليفه تأليف فوري لأنني لا أتذكر حرفاً واحداً مما هو مكتوب بالنص .. قرروا طردي من الفريق بعد أن منينا بخسارة فادحة في مسابقة المسرح الجامعي بسبب ارتجالي وخروجي عن النص .. ولما كان المشرف على الفريق هو مخرج مسرحي كبير ويحبني إلى حد ما .. فقد أعطاني فرصة أن أتوقف عن التمثيل فوراً لأنني ( عار ) على مهنة التمثيل وهواة التمثيل وكل ما له علاقه بالتمثيل وأتفرغ للكتابة المسرحية .. ووضع شرطاً لي حتى أنجح في كتابة المسرح وهو أن أدرس الشخصيات التي سأكتبها في نصوص مسرحياتي .. بحيث لاتكون كل الشخصيات متشابهه .. ويكون الصراع بينهما منطقياً .. حينها راقت لي الفكرة جداً .. وقررت كتابة مسرحية عن الفساد الذي حول رجل من قمة العقل لقمة الجنون .. وفكرت فوراً في ( منير المجنون ) .. كان مدرس موسيقى عبقري .. لكنه كان ناقداً لاذعاً لسياسة الدولة فتم اعتقاله عدة مرات حتى خرج آخر مرة مجنوناً بالكامل .. كان ( منير المجنون ) يعيش في آخر الشارع الذي أعيش به في حي الهرم بمدينة الجيزة .. قررت أن ( أعزمه ) على فنجان شاي في مقهى ( البنداري ) حين أراه يجري في الشوارع الجانبية بالحي .. ووجدته .. فرحت جداً .. ركضت ورائه ( كالعبيط ) وأنا أصرخ فيه أن يقف حتى وقف .. أخذت أحدثه وأنا ألهث من شدة التعب والجري ورائه حتى أقنعته بأن ( أعزمه ) على الشاي فوافق .. ساعتها قلت في نفسي أن طاقة السماء انفتحت لي وسأدرس شخصية منير المجنونة بمحض إرادته وسيكون هو بطل عملي المسرحي الأول .. جلسنا على طاولة صغيرة في مقهى ( البنداري ) .. كان هادئاً جداً .. بل وعاقلاً جداً .. تركته يتحدث عن سيد درويش وزكريا احمد والأخوين رحباني بعشق شديد وهو يحتسي الشاي ببطء .. نظرت في عينيه وأنا غير مصدق أنه منير المجنون بل منير المبدع .. منير الرائع .. منير الفنان .. .. ثم صارحته بقولي: منير .. أنا بحبك .. حينها انتفض .. ثم صفعني على وجهي صفعة مازلت أتحسس ألمها حتى اليوم وهو يضحك بهستيرية ويقول: وأنا كمان بحبك .. وضرب الحبيب ( زي ) أكل الزبيب .. منك لله يا منير يا مجنون !!

................................................

حين تتراكم عليك الأحزان فأعلم أنك مرتبط بحبل غليظ مع واقع مر تعيش فيه ( باختيارك ) .. محيط بشري من الأقارب والأصدقاء يرفض حريتك .. مجتمع يسن قوانين من شأنها كسر شوكتك لمجرد انها شوكتك .. طغاة يدفعوك للتعامل مع الحياة من خلال محاذير .. خوف .. دجل عظيم أسمه الأعراف والعادات والتقاليد ليستعبدوك .. قساة كبلوك بالزور حتى سرقوا عمرك وسرقوا البقية من أحلامك وسرقوا الباقي من إنسانيتك .. هل تحلم بالسعادة .. .. تحتاجها .. تتوق لاعتناق مذهبها .. تريدها؟؟ .. خذها .. أقطع الحبل وأهرب لسماء البساطة .. تبسط مع وجودك ولو هاجرت وانقطعت عمن يريدون اعتقالك ولو كانوا ذا قربى !!

.......................................

التواضع ليس معناه أن تقلل من قيمتك .. أن تنكر عليك أدواتك .. علمك .. مشاعرك .. حلمك .. ليستشعر الناس أنك واحد منهم .. ليستشعر الناس أنك بسيط .. سيأكلونك .. حتماً سيلتهمون ما تبقى لك من إنسانية ليشعروا في ذواتهم القاسية بالقوة .. هناك ( شفرة ) غامضة تجعل بعض الناس يشعر باللذة في ضعفك .. في انسحاقك أمامهم تحت دعوى التواضع .. لن يرضوا عنك .. لن يجني عليك هذا الفعل البائس سوى الضلال .. الخوف .. التأقزم .. وحينها ستتقاذفك أقدامهم ونعالهم ليتخلصوا منك .. فالطبيعة البشرية لا تميل للضعفاء .. الطبيعة البشرية لا تحترم ولا تتحالف إلا مع القوي .. وهناك فرق ( شاسع ) بين تواضع الحكماء .. وتواضع العبيد .. فتواضع الحكماء هو العطاء بكبرياء لا فرق فيه بين رجل وامرأة .. وتواضع العبيد هو العطاء بمذلة لإرضاء رجل أو .. امرأة !!

 

.......................................

مأساة أن نحتفظ بالعقلية الطفولية ملازمة لنا حتى بعد النضج الجسماني ومراحل التعليم المختلفة .. بل والزواج والإنجاب .. نبقى وكأننا مازلنا صغاراً في حالة عدم ثقة من أفعالنا وأقوالنا .. كثير منا يفعل الفعل أو يقول العبارة ثم يبحث عمن يستشهد به ليقول له هل ما فعله ( صح ) أم ( غلط ) .. كثيراً ما نسمع هذه العبارة .. نؤمن بهذه العبارة .. نردد هذه العبارة .. أنا كنت صح ( واللا ) أنا غلطان؟؟ .. والسؤال ماذا لو كنت غلطاناً ؟ .. هل سينهار العالم ؟ .. هل ستزلزل الجبال ؟ .. هل ستسقط أنت؟ .. لن تسقط .. إنها طفولة لابد أن نتخلص منها ( فوراً ) .. التخلص منها للتحول لمرحلة النضج الذاتي .. لحالة جديدة مشرقة من الإنسانية .. لنوع جديد من تحمل المسئولية .. فلنتحمل مسئولية أفعالنا وأقوالنا بنضج حتى نتعلم من أخطائنا وننجو .. ولتسقط عبارة: أنا صح ( واللا ) أنا غلطان !!

 

........................................

لابد أن تكون هناك ( فكرة ) تجمع بين العاشق والمعشوق .. رابط معنوي .. حكاية .. هواية .. ليس فقط هدف .. أو حلم .. أو طموح .. العشق بدون كلمات تدور في محيط إبداعي سيتحول إلى حب .. وإذا تحول العشق إلى حب ستكون الغرائز هي المسيطر الرئيس على طرفي العلاقة .. وهذا يتطلب استنزاف الجسد .. وحين يصل الجسد إلى ذروة الإشباع يزهد كل طرف في جسد الآخر ثم يعم الصمت في عدم وجود فكرة أو رابط معنوي أو حكاية أو هواية فتتوه الروح .. تستشعر الضياع .. الوحدة .. ومن ثم تبحث كل روح عن روح ( خارجي ) .. عن معنى ( خارجي ) يعوضها عن ما اكتشفت فقدانه بعد زهد الجسد في الجسد .. فتتفسخ العلاقة .. تذبل .. ويلقي كل طرف باللوم على الطرف الآخر .. وغالباً ما يكون اللوم متعلقاً بالقدرة الجنسية .. المسألة الوحيدة التي يظنها الرجال والنساء أنها السبب الرئيس في فشل العلاقة .. لأن العلاقة لم تختبر أي سبيل آخر سوى الجنس .. الخبرة الوحيدة التي تمت ممارستها بشبق بين الطرفين وربما كان هو الدافع صاحب النسبة الأهم والأعلى في سبب ارتباط كل طرف بالآخر دون النظر لخبرات أخرى أكثر عنفواناً وقوة وقيمة .. وحيث الجنس لن يصل بأي علاقة للارتواء .. لأن الجسد في عطش دائم .. ومن ثم لا يجب الاعتماد على الجنس الجسدي فقط في ارتباط أنساني مقدس بين رجل وامرأة فهو دوماً متأرجح بين القوة والضعف اعتماداً على قوة وضعف الجسد بل وحالته المزاجية .. وإنما يجب الاعتماد على استقرار الروح التي تستقر عند أول بارقة نور .. فكرة .. رابط معنوي .. حكاية .. هواية .. فتخلد المشاعر وتطمئن السجايا.