كنّا ثلاثة أطفال نقيمُ مع أمنا عند جدَّتي، أنا وتوأمي وأختي التي تصغرنا بأكثر من عام، بالعادة نبكر فجرا إلى المدارس، على الأقدام.. لكن اليوم مرضى ثلاثتنا يرحل بنا لمستشفى القرية، ويأخَذَنا راعي الأغنام على عربةٍ صحبة أمي .. كنتُ خائفا قد أخمن الآن أنه من رهبة الطبيب ورائحة الدواء، غير أنه بساعتها كان حزنا ممزوجا بفرح حين التعطل عن الدرس.. حثَّ الحوذي الدابة قائلا: - أيها الصغار، تَمَسّكوا جيداً.. وهكذا تنحدر بنا العربة عبر الطريق الوعرة إلى السهوب والمنحدرات بالأسْفل . ومن خشية المرض يلتفت بين الحين والآخر يرمي علينا العباءات..هُناك على العربة ، تشْعرُ انّك حُرٌّ كالطير، وأن اهتزاز عجلاتها على الأتربة والغبار يطلقك من فخاخ السقوط ومن رحم الفقر.. ولا يفتأ سائق العربة متلفحا ببرنسه ومشيرا بعصاه للدابة أن تركض وتركض .. والآن أدرك أنه يفعل ذلك ليتفقدنا هل جال بمآقينا النعاس؟ هل ارتفعت حرارة أجسادنا؟ يفاجئنا قائلا: يا أولاد.. سوف أريكم شيئاً ما بالطريق.. هو شيءٌ يتبعنا دائما أنَّى سرنا..! فيهتف أخي: - شجرة لوز؟ وتردف أختي: - ظلُّ وسواد..؟ يتنهد السائق مبصبصا لحصانه: - إنه شيءٌ يختلف عن الأشجار والظلال .. ظلِّكم يخطو خلفكم في النهار! ولكنه يرْتَفِعُ ويصعد في المَساء.. ويغيب..! ماذا يكون ؟ هذا الذي يتبعني وليس ظلِّي؟ أية رهبة تملكتني ساعتها، وظللت أمتع عيني بالأشجار التي تجري للخلف .. أرقبها تغيب في البعاد.. تتلاشـــــــــــــــــــــــــــــى .. تتــــــــــــــــــــــــــــــلاشـــــــــــــــــــى.. أيّة صخورٍ متشبّثةٍ بالأرض؟ أيّة أعشاب تنْبتُ من هذهِ النتوءات الصخريةِ الحجريّةِ ؟ كنتُ لا أستنشق سوى الخوف في حفْنَةٍ من غبار، طوالَ الطريق ، حين الذهاب جنوباً. لما وصلنا، ككومةٍ من الألواحِ المُهشّمة نزلنا من فوق العربة.. وفكَّ الحوذي صواري العربة عن الدابة وربط الحصان للشجرة.. ولكنه لم يفكَّ طلسم السؤال من ذاكرتي قط.. ومشينا لدهليز أبيض ..أبيض.. نفتش عن غيرالظل.. عن ذلك الشيء الذي طالما حدثنا عنه الحوذي بالطريق..
مساء ذلك اليوم، عذبة كانت تَـهبُّ الرّيـحُ ، تلاعب قطع الثلج .. وتهوي بها لسحيق الوديان.. تذروها على أغصان الشجر.. وكما الريح نتقاذفها.. نجري خلف بعضنا نتراكض ..ونعثر ونسقط ونقوم.. وحلَّ المساء على ثلاثتنا، وأقلقَ الصقيعُ ضحكاتنا، فرجعنا مُتأخرين من حديقة الزنبق.. أيدينا مليئة بعبق الزهر ونتف الثلج ، وشعورُنا مُبْتَلّة وعيوننا ذابلة، حناجرنا مبحوحة .. فلا نحن أحياء ولا أمواتاً أمام الأم، صدورنا كالغرف القاتمة، ولكننا ننْظرُ إلى قلبِ الضّوءِ بالسراج ، إلى السكون والصمت على شفاه تلك الأم.. وكلُّ منَّا تَسَمّرتْ عيناهُ أمام قدميه يبدي الندم والحسرة.. وتنطلق منها تنهُداتٌ ضئيلة ومُتباعِدة متبخّرة، قالت أمي، وصوّبت إلينا نظرةً صريحة: - تحلقوا حول الكانون.. أشيحوا ملابسكم .. ياأولاد الـــ......! عراة كنا بعيونِ مُتيقظةٍ بلا جفون، مُنتَظرين الطرقةَ على البَاب او الضربة بعقب الحذاء.. ويا لتعاسة المسعى.. أسندتني للوسادة على سرير اللوح وجَلَسَتْ ، مِثلَ عرشٍ صَقِيل، وظهر من خصلات شعرها الأشيب غيظها والحنان.. وقُبَاَلَتَنا توَهج النورعلى الستائر، صامتة بالركن، وبين الحين والآخرتنظر في سقف البيت، تتمتم باهتة سرحانة البال، ثم قامت إلى صندوق مقابل مرتكز على قوائم من عناقيد الكُروم، لاحَ من إطاره الذهبيٌّ قفل مربع، ومن كوَّة بالغرفة أخذت مقاليد من المفاتيح ثم ضاعفت ضوء السراج، حتى تعالج قفل الصندوق وتفتحه.. رأيتُها تتأمل محتوياته ويغمرها بريق حُلِيِّها المُشْرِق،مسكتْ قارورتين: باليمنى عاجيّة وبالأخرى زجاجة ملوّنة بلا سدادة تفوح منها عطورُها المُركّبة الغريبة. أخذت تدلك ظهري بالمرهم، وتعود تخلطه بالمسحوق من زجاجتها العاجية ثم تفرك به رأسي وتغرق به فروة شعري.. مُرتبِكا ،غارقا في حِسِّ روائح مراهمها، يُهيّجُني هواءٌ يَهبّ من النافذةِ، وأبصر النور يتعالى يطول وتكبرُ السنته، أراه يُحرّك زخارفَ على السقفِ المجوّف وأحطابا تشبّعت بالنحاس، مُؤطرةً بحجرٍ ملونٍ كما لو كان منمنمة تحترق بالالوان الخضراء ، والبرتقاليّة وفي ضوئها الحزين تنزلق صورٌ تذَبُل وتلتصق بالجدران أشكالٌ مُحدّقةٌ هزيلةً ، سرعان ما تنطوي مثل كوابيس.. تغطيني جيدا.. فأغمض عيني تحت اللحاف.. أتخيلها تضع الإسطوانةَ على الحاكي وتنبعث موسيقى هادئة تزحف بقربي على السرير.. ويأخذني السعال ويهدأ وأسمعُ أَنَّاتِ الكَمَانِ الصّافية.. ولم تكد تمضغ أذناي رناته الهادئة، حتى كمّمَ الغرفةَ الصامتة وقعُ خطوات أمي وهي تخبط على السلّم نازلة..
كانت قاعة الانتظار مملوءة بالمرضى وأهاليهم.. جلسنا ثلاثتنا جنبا لجنب.. وبالمقابل قرفصت أمي بجانب فتاة شابة وطفل بين ذراعيها.. - كيف حال الصبي؟ - فوق الأربعين حرارته.. شرحت لها أن مشكلة نزلة البرد عامة لكنها غير مقلقة.. ثم جلست بجانبها امرأة شابة .. كان زوجها العشريني يفحصه الطبيب بالداخل. - زوجي عاقر لا ينجب ورحمي لا يقبل الأمومة . - ولم يقولوا لك شيئا للآن ؟ - لا.. انهم لم يجدوا لي بعد رحما كي أنجب له صبيا او بنتا. ضاعت الكلمات من أمي ولم تعرف ما يجب قوله او بم يمكن ان تواسيها..؟ وهي التي جربت الامومة وعسر الولادة مرتين.. وأحزنتها فكرة أن امرأة جميلة تريد أن تعطي معنى لرحمها.. سألتها: - يكفيك أن تمارسي مهمة الزوجة والفراش.. تبرق عينا المرأة التواقة إلى طفل يسعد لهفتها لكلمة ماما .. ولمحتُ أساريرها تنبسط وسمعتُها تسرُّ لأمي: - أبحث عن رحم بحالة جيدة للبيع .. ما رأيك أستأجر منك رحمك لتسعة أشهر؟ أمسكت المرأة بأمي من تلابيبها وغابت بها لساعة مع زوجها وبحضرة الطبيب .. كان الاتفاق مع أمي الحاملة على راتب مرتفع.. باع أبي العربة والحصان وصرنا نركب سيارة توصلنا للمدارس.. ولم تمرَّ تسعة أشهرمن الحمل .. حتى أنجبت أمي توأما.. وامام اصرار أمي ورفضها أن تأخذ المرأة وزوجها الرضيعين دون أن تقبض الثمن مرتين.. كانت الممرّضة تسلّمهم آسفة صندوقين صغيرين.. حينها لاح لي الشيء الذي ما فارقنا والذي طالما حدثنا عنه الحوذي بالطريق.. أو حسبناه الظل.. كان الموت لا شيء غيره ..!
دكتور حمد حاجى –تونس