تزامن الاحتفال بذكرى مرور أربعين عاما على قيام الثورة الإيرانية مع انعقاد مؤتمر وارسو بدعوة أمريكية، والذى جعل من إيران هدفا عاجلا لمواجهة التحديات الأمنية فى الشرق الأوسط، باعتبار نظامها مسئولا رئيسيا فى نشر الفوضى ودعم الإرهاب فى المنطقة، هكذا وصل الحال بالجمهورية الإسلامية التى أرسى دعائمها آية الله الخومينى منذ أربعة عقود، وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع سياسة الولايات المتحدة وأهدافها الخفية والمعلنة، فإن السؤال الجوهرى ينصرف إلى طبيعة المشروع الراديكالى الثورى الذى روجت له طهران وحكم البلاد باسم الدين، وما إذا كان قد قدم بالفعل تجربة ديمقراطية يُعتد بها، أم اقتصرعلى تمكين رجال الدين من الوصول إلى السلطة والاستمرار فيها، ثم لا شيء بعد ذلك؟
مثلت الثورة الإيرانية واحدة من أهم الثورات المعاصرة، ليس فقط بحكم التغييرات الجذرية التى أحدثتها على مستوى الدولة والمجتمع الإيرانيين، وإنما لتجاوز تأثيرها حدودها الجغرافية ضمن مبدأ تصدير الثورة الذى أضحى نصا دستوريا، تستعيد من خلاله فكرة الخلافة الإسلامية ولا يهم هنا إن كانت شيعية أو سنية، فالمنطق فى النهاية واحد.
هذه الثورة ـ التى استمدت شرعيتها فى البداية من دعوتها المثالية ضد الاستبداد السياسى الذى أعزته لنظام الشاه محمد رضا بهلوى، واستطاعت به تجميع أطياف وتيارات المجتمع كافة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ـ مالبثت أن شيدت نظاما أكثر استبدادا باسم ولاية الفقيه، حكما ثيوقراطيا صريحا يزاوج بين التسلط السياسى والدينى، فتخلصت من حلفاء الأمس ومارست أقسى أنواع القمع ضد الخصوم والمعارضين مقابل ديمقراطية شكلية وانتخابات دورية محكومة بنظام شديد الازدواجية، أعطيت فيه الكلمة العليا للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية فى مواجهة رئيس الجمهورية ثم لمجلس صيانة الدستور مقابل البرلمان والحرس الثورى كقوة مسلحة موازية للجيش النظامى، ولم تعد هناك نخبة سياسية حقيقية باستثاء ما تدور فى فلك السلطة، فأسفر الأمر عن تلك المعادلة الزائفة التى تُقسمها بين متشددين وإصلاحيين دون أى تغير ملموس فى السياسات العامة داخليا وخارجيا، والشيء نفسه ينطبق على حال الحقوق والحريات المدنية والفردية ووضع المرأة، وكلها شهدت تدهورا حادا وانتهاكات منتظمة سواء لأسباب سياسية أو دينية، وفقد المجتمع الإيرانى معظم مقوماته الحضارية وقوته الناعمة فى مجالات الفكر والأدب والفنون، ولم يكن الحال أفضل على صعيد الاقتصاد ونسب البطالة وتدنى مستوى المعيشة وتحديث البنية التحتية والخدمات العامة ومكافحة الفساد والشفافية، أى كل ما يندرج تحت مسمى التنمية البشرية.
المفارقة هنا أن النظام أنفق ذومازال- المليارات على بناء وتطوير قوته العسكرية والنووية ودخل فى سباق محموم على التسلح وبناء القواعد العسكرية، كان آخرها قاعدة الصواريخ المزمع إنشاؤها مع فنزويلا فى تكرار للمحاولة السوفيتية فى كوبا أوائل الستينيات، بزعم مواجهة الولايات المتحدة التى انتهت بالفشل.
إن هذه الأولويات المعكوسة لم تكن بالطبع محض مصادفة، بل لخدمة أغراض مشروعه فى التوسع الإقليمى وبسط الهيمنة والنفوذ، وربما لا يفوق إنفاقه على التسلح إلا إنفاقه على حروبه المباشرة وبالوكالة، ما جعل الجمهورية الإسلامية المتهم الأول بالتدخل فى شئون الدول الأخرى، من لبنان إلى العراق وسوريا واليمن، وإن لم يتوقف الأمر عند حدود حلفائها من الشيعة، ولكن امتد أيضا إلى الحركات السياسية السنية وفى مقدمتها حركتا الجهاد وحماس الفلسطينيتان. لكن على الرغم من أن السعى للتوسع الإقليمى هدف فى ذاته، إلا أنه ليس الوحيد، فهناك أيضا البحث عن الشرعية السياسية، بالاتجاه نحو الخارج هروبا من مشكلات الداخل، تؤكد ذلك جميع الشعارات التى رفعها نظام الملالى من «نصرة المستضعفين» فى مواجهة قوى الاستكبار إلى الموت لإسرائيل ومحاربة الشيطان الأكبر والهيمنة الأجنبية عموما، وإن لم يتحقق أى منها على أرض الواقع، ولا يخفى ما فى هذه الشعارات من محاولات لحشد وتعبئة الشعب للوقوف خلف نظام الحكم دون مساءلته، كما تقتضى المعايير البسيطة للديمقراطية فى حدها الأدنى.
الآن تغيرت الظروف، ولم تعد الأجيال الجديدة تكتفى بتلك الشعارات التى فقدت مصداقيتها، وخرجت فى مظاهرات عارمة مطالبة بحقوقها الطبيعية فى الحرية والحياة الكريمة والديمقراطية، وبدأت فى محاسبة النظام على مغامراته الخارجية التى استنزفت ثروات البلاد، وطالبته بالانسحاب من سوريا والكف عن تمويل الميليشيات الموالية له، وفى مقدمتها حزب الله اللبنانى وغيره.
لهذه الأسباب فالتجربة الإيرانية قد هُزمت من داخلها، قبل أن تقف ضدها القوى الدولية والإقليمية، وتحاصرها العقوبات المفروضة عليها والتى تفاقم من أزمتها، وإذا كان ثمة دروس مستفادة من هذه التجربة، فهى لا تُختزل فى قيام الثورة ولكن فى طبيعتها، فكل الثورات بلا استثناء تتسم بداياتها بالعنف ويكون لها ضحاياها، ولكن يبقى الفارق الأساسى الذى يجعل لكل منها مسارا مختلفا متمحورا حول أهدافها ومشروعها السياسى والثقافى الذى تحمله، فالثورة الفرنسية كانت شديدة الدموية، ولكنها أسفرت عن أهم إنجاز حضارى إنسانى لتكريس مبادئ الحرية والإخاء والمساواة التى أصبحت دستورا للعالم أجمع، وعلى العكس جاءت الثورات ذات الطابع الشمولى كالبلشفية فى روسيا التى انتهت بسقوط الاتحاد السوفيتى وانهيار أحلامه التوسعية الإمبراطورية، وكذلك الثورة الشيوعية التى قادها ماوتسى تونج فى الصين، ولم تؤد فى النهاية إلا إلى تخلفها وعزلتها إلى أن خرجت من عباءتها بعد وفاة زعيمها، وانفتحت على العالم وتبنت سياسة السوق الحرة حتى أصبحت من أكبر الاقتصادات العالمية فى وقتنا الراهن، أما الدرس الآخر فيتعلق بجوهر مشروع الاسلام السياسى، صحيح أن السلطوية فى الشرق الأوسط لا تقتصر على النظام الإيرانى، لكن أى حكم باسم الدين لن يقود إلا إلى مزيد من الاستبداد وتكون تداعياته أخطر من مثيله السياسى، يستوى ذلك كونه شيعيا أوسنيا، لذلك فإيران فى حاجة إلى ثورة جديدة، ولكنها ثورة من أجل الحرية وبناء الإنسان.