صلاح هاشم يكتب: اللحيـةُ التـي خـدعتنــــي!

في يوم من أيام “النبى سليمان” عليه السلام، جاء طائر إلى بركة ماء كي يشرب، فوجد حولها أطفالًا يلعبون، مما جعله يتردد عن النزول؛ خشية أن يُوُقِعَ الأطفالُ به أذى. وقرر الطائر الصبر على الظمأ حتى يرحل الأطفال.. وما إن ابتعد الأطفال عن البركة، واستعد الطائر للنزول، جاء إلى البركةِ رجل عجوز بـ “لحية” طويلة بيضاء. فتردد الطائر ثانية، ولكن سرعان ما طمأنته نفسه، وأخبرته بأن لحية العجوز سوف تقيه من أذاه.. وما إن حط الطائر بجناحيه على البركة، حتى ضربه الرجل بحجرٍ ففقأ عينه!

ففر الطائر ملطخًا بدماء الخديعة، ليقف بين يدي الملك سليمان، ويطالبه بالقصاص لعينهِ التي فقأها حجر العجوز. وعلى الفور استدعى سليمان عليه السلام الرجل، واستجوبه فيما نُسبَ إليه، وحين اعترف بجريمته؛ حكم سليمان بأن تُفقأ عينه.. فالعين بالعين والبادئ أظلم.. وهنا هَبَّ الطائر مُعترِضًا على حُكم سليمان، وقال غاضبًا: يا مولاى عَينُ الشيخ لم تؤذنى فلما تفقأها؟! إن الذي أذانى هي “لحيته” لذا فإننى أطالبك بقص لحيتهِ “تُقاةً” حتى لا يخدع بها أحدًا بعدى!

ربما يكون هذا الطائر الضعيف أذكى بكثير من البشر، إذا أنه تجاوز رغبته في الانتقام، واتبع في القصاص سياسة “التوقي” من أجل حماية المجتمع من نير الخديعة.. ورغم قِدم تلك الحكاية، إلا أنها تُحاكى واقعًا نعيشه، ونتجرع كل يوم مرارته. فكثيرٌ ما تخدعنا مظاهر البشر، خاصة إذا كانت هذه المظاهر تدل على التدين!

ولا أريد هنا الإشارة فقط إلى تجار الدين، الذين استخدموا شعاراته البراقة في تضليل البسطاء من الناس؛ بهدف الوصول إلى السلطة، فتسببوا عن عمدٍ في تخريب العقول والضمائر، ووضعوا الأوطان على صفيحٍ ساخن..

ربما كانت “اللحية” في القصة رمزًا ذا دلالة. لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة، إذ أصبح التضليل وصناعة الجهل “عِلمًا” يتدارسه كل راغب في الوصول إلى السلطة، وقيادة الناس إلى المصير الذي يريده لهم!

وتبدأ عملية التضليل أو التجهيل دائمًا بالتشكيك في الحقائق الثابتة، حتى يصل الأمر بالناس إلى مرحلة، يرفضون فيها الحقيقة بشكل قطعى. ومن ثم يصبح عقل الإنسان بمثابة جهاز استقبال لمعلومات جديدة -إما ناقصة مغلوطة- إذ ينطلق علم “صناعة الجهل” دائمًا من الشك، باعتباره أفضل وسيلة للتنافس مع المسلمات والحقائق الثابتة.

وعادة ما نلاحظ هذه الممارسات بوضوح حين تريد الحكومات أن تمرر قانونا أو قرارًا يتعارض مع مصلحة الشعب.. ونلمسه بوضوح أكثر في بعض وسائل الإعلام المعادى لاستقرار المجتمعات الإنسانية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعى التابعة للجماعات الظلامية المتطرفة، من خلال ما تبثه من أكاذيب، الغرض الأساسى منها هو زعزعة قناعات الناس، والتشكيك في ثوابتهم الوطنية وربما الدينية أيضًا.. فعادة ما يستخدم الطرفان حِيلةً قديمة، مفادها “عَكِّر الماءَ لتصطادَ السَمَكَ”!

ولا أكون متحاملًا على الحكومة حين أحملها مسئولية السماح لإسلام البحيرى ود. سعد الدين الهلالى بأن يواجهوا البسطاء عبر شاشات التلفاز بمعلومات دينية مختلف عليها؛ مما تسبب في تشكك الكثيرين في ثوابتهم الدينية، وكانت النتيجة ارتفاع معدلات “الإلحاد” بين الشباب، لدرجة أنه في شهر فبراير الماضى فقط، شهدت محاكم الأسرى 6500 دعوى “خلع” لسيدات شكون من إلحاد أزواجهن!

وتؤكد أدبيات هذا العلم الذي ظهر في بداية القرن الماضى بالتحديد عام 1906 على يد الأمريكى “روبرت بروكتر” الذي اهتم بدراسة صناعة الجهل.. بأن مستهلكى معارف هذا العلم وفنونه ثلاث فئات. يأتى الفقراء والأميون وأنصاف المثقفين على رأسها، ويأتى في المرتبة الثانية المتدينون الذين يؤمنون بالقدرية، والذين يظنون بأن أقدارهم ثابتة لا تتغير، ومن ثم فيمكن اصطيادهم من هذه القناعات. كل ذلك ربما يقبله العقل، لكننا حين نعرف أن الذين جاءوا في المرتبة الثالثة هم أساتذة الجامعات ومعلمو المدارس العليا؛ فلابد أن تصيبنا الدهشة، التي سرعان ما تتبدد؛ حِينِ نَتَتَبَعُ أعضاء الجماعات المتطرفة، ونجد أن أغلبهم مهندسون وأطباء وباحثون على درجة عالية!

وغالبا ما يستهدف أصحاب هذا العلم فئة “التكنوقراط” في حكومات الدول الفقيرة، والذين يناط بهم دائمًا تقديم النصح والمشورة لصناع القرار. حيث يتم تدريبهم على تمرير الجهل وتبريره، تحت مسمى النظرية والعلم، والموارد والإمكانات. لتصبح مهمتهم الأساسية في أروقة الحكم، هي بث روح اليأس في نفوس الحًكام وأصحاب القرار، والتشكيك دومًا في قدرتهم على الإصلاح.

ويخبرنا رواد هذا العلم أنه إذا أردت أن تُضعِفَ أُمةً وتُجَهِلُها؛ فيكفيك فقط أن تُقنِعها بأنه لايجب أن يكون المجتمع مطلق التفكير. واجعل لكل مواطن فيها أيديولوجيته الدينية أو السياسية الخاصة، التي تحثه على الإتباع الاعمى. وانشر فيها روح القطعنة باسم المواطنة والوطنية، والدين والطائفة!

أقنعهم بالصبر على الفقر، بدعوى أن الغنى والفقر من الله، وأنه لا أحد يستطيع تغيير القدر.. وأقنعهم بأن الطقوس والشعائر الدينية السطحية هي غاية الدين، وأن العمرة لا تعادلها في الثواب بناء غرفة للاجئٍ أو فقير!

انشر بينهم روح تسخيف وتحقير الحياة، وانشر ثقافة الموت وفِكر التجِييش العاطفي والحزبي، وحُب الجهاد والموت ونبذ الحياة. اقنع الشباب بأن قراءة كتب الفقه أفضل بكثيرٍ من قراءة كل علوم الأرض. فعلوم الفقه تقود أصحابها إلى الجنة، بينما تزول علوم الدنيا بزوال أصحابها!

أقنع الناس بأن الكون مُتآمرٌ عليهم، وأنهم يعيشون في واقع مفروض عليهم، لا يمكنهم تغييره. دعهم ينتظرون “لمُنقِذ” يرسمون ملامحه في مخيلاتهم، أقنعهم بأنه حتما سيأتى من خارجهم، واجعلهم على يقينٍ بأنهم فاشلون!

وفى النهاية يحضرنى حوار الأمين العام للأمم المتحدة حين سأل الرئيس الليبى “معمر القذافى” لماذا تركت شعبك جاهلًا؟! فقال: حتى لا يثوروا على.. فقال له الأمين العام: المُتعلم إذا ثار عليك أقالك.. أما الجاهل إذا ثار عليك قتلك!