"أد الاكرام للآثار القديمة.. ولاتحقرن الأساطير
*بلايني Pliny
رافقت الاساطير الانسان منذ نشأته، ومازالت ترافقه، كما ارتبطت بفكر الناس وعقائدهم وطبائعهم. وقد كان على الانسان القديم، أن يخترع الأساطير. فإن ماحوله من مدهشات الكون وأعاجيبه، التي لم يستطيع ادراكها إدراكاً علمياً، حمله على أن يتوهم لها تفسيراً، ويتخيل أصولاً ووقائع، يرتاح إليها، وتزيل حيرة نفسه!..
والأساطير مهما كان شأنها، قائمة ولاشك، على أساس من الحقيقة. غير أن الخيال الأنساني تلاعب في هذا الأساس، فحوله الى ماتخيله من صور، والبسه من الأوهام بروداً، جعلته بعيداً عن المعقول وإن يكن قريباً من النفوس، محبباً الى القلوب، وتحتلف الأساطير من شعب الى آخر، وإن لها علاقة قوية بالطبيعة، تتناقلها الشعوب والحضارات وهي تكتنز ينابيع من الجمال لاتنضب!..
وتدور الأسطورة Legend على موضوع الانسان، ومحاولاته تعليل المبهم الغامض، ومايحيط به من الغاز، تحتاج الى تفسير وتعليل.
وتدور الملحمة Epic حول الآلهة، خلقها ومغامراتها، وعلاقتها مع الناس. ويرى البعض أن الخرافة Fable لون من الوان الأساطير. ولم يفرق أرسطو Aristotle بين الخرافة والأسطورة، ونراهما في كتابه (فن الشعر) شيئاً واحداً!..
إن كلمة "ميثوس Mythos" عند الاغريق تعني "حكاية" وكلمة "أسطورة" مقتيسة من كلمة "هستوريا Historia" اليونانية، التي تختص بحضارة ما، كما تعني الدراسة المنهجية لمختلف الأساطير. وينظر البعض الى الاسطورة، على أنها نوع من الأدب القصصي، تكيفه العواطف والأحلام، والأماني والمفاهيم، والمعتقدات الدينية!..
الكنعانيون
يعرف كل شعب باسمه قبل كل شئ، والكنعانيون والفينيقيون تسميتان لشعب واحد. وقد وردت التسميتان فى العهد الجديد (الانجيل) واستعمل اسم (بلاد كنعان) لمساحات وحدود مختلفة، شملت الساحل السوري من كيليكيا شمالاً الى سيناء جنوباً.
والكنعانيون – شعباً وحضارة- كانوا ومازالوا يثيرون اهتماماً كبيراً، في الشرق والغرب على حد سواء. ويعتقد بعض المؤرخين أن الكنعانيين، نزحوا من شبه جزيرة العرب. فيما ذكر المؤرخ هيرودوت Herodot أنهم جاؤوا من سواحل أريتيريا على البحر الأحمر. ويؤكد "فيلون الجبيلي Philo of Byblos" (64- 141م) وهو مفكر كنعاني، ذو ثقافة اغريقية، أن الكنعانيين أصيلون في أرضهم. وذلك في كتابه "التاريخ الفينيقي Phoenikike History".
وتشكل (بلاد كنعان) جزءاً من سوريا الطبيعية او الكبرى Greater Syria الممتدة على مساحة تقارب مليون كيلومتر مربع. وقد امتدت المدن المنعانية على الساحل السوري، والى الداخل قليلاً ومن مدنهم الهامة أدنة وطرطوس في كيليكيا، وأوغاريت وجبلة، وجزيرة أرواد وطرطوس، وعمريت وسيميرا وطرابلس، وجبيل وبيروت، وصيدا وصور، وعكا وحيفا. ويافا وعسقلان وغزة على الساحل. ومجدو وبيسان وشكيم (نابلس) وأريحا، وأرشليم وغيرها في الداخل.
وقد اشتهر الكنعانيون بأنهم أول أمة بحرية في التاريخ. أقاموا المحطات التجارية والمستوطنات والمدن على شواطئ البحر المتوسط، وتاجروا بالأقمشة والصباغ الأرجواني، والخشب والقمح والنبيذ، والزيت والصموغ والفخار، والأدوات المعدنية وغيرها!..
ومن منجزات الكنعانيون الحضارية الكبرى، اختراع الكتابة الأبجدية في اوغاريت أولاً. ثم تطويرها فى مدينة جبيل ونقلها الى العالم، وكانت ديانتهم مستوحاة من قوى الطبيعة. ومتأثرة بديانات الشعوب المجاورة.
اهمية النصوص الأوغاريتية
يعتبر العلماء أن اكتشاف مدينة "أوغاريت Ougait" على الساحل السوري، شمال مدينة اللاذقية في عام (1929) أحد أبرز الأكتشافات الأثرية، التي غيرت معرفة البشرية بالتاريخ. حيث تم العثور على حضارة متعددة الجوانب، وثقافة مكتوبة، وعلى لغة حفظت أدباً، كان حتى ذلك الوقت مجهولاً.
وقد كشفت نصوص أوغاريت، تاريخ وحضارة الفترة الكنعانية من تاريخ سوريا، وبينت أن العديد من الأفكار الدينية، وأكثر وجدانيات التوراة وأناشيدها، هي اقتباس لثقافة بلاد كنعان، وبلاد "مابين النهرين Mesopotamia" كما أظهرت أثر الأدب الكنعاني في آداب وثقافة بلاد اليونان.
في أوغاريت تم اكتشاف نصوص مكتوبة بثماني لغات مختلفة ويذكر العالم (سايروس غوردون Cyras H.Gordon: "إن الأدب الأوغاريتي سد الثغرة بين هوميروس Homer والكتاب المقدس".
وفي هذه المقالة سوف نقدم طائفة من الأساطير الكنعانية، وقد أغرتني دراستها، لما لها من أهمية في توضيح الفكر الكنعاني، في مسيرته الاولى وفجره الأول، وهدفنا تبديد الظلام، والقاء الضوء على جزء هام وأساسي، في تاريخ سوريا القديم!..
ملحمة التكوين
تقول (ملحمة التكوين) في الميثولوجيا الكنعانية مما يلي:
"إنه في البدء لم يكن الا الهواء الكثيف والخواء، ومنهما تحدرت الريح والرغبة، فكان الاله "موت Mot" على شكل بيضة كونيه، وداخل البيضة، تكونت بذور مخلوقات، بقيت دون حراك، الى أن انفتحت البيضه، فقذف (موت) بالشمس والقمر والنجوم. وبتأثير النور، انفصلت المياه عن السماء، وخلقت الحيوانات، ثم خلق الانسان. فكان الزوج الأول "باو" و "كولبيا".
وقد وردت هذه الملحمة Epic في كتاب فليون الجبيلي نقلاً عن الكاتب الفينيقي سنخونياتون، الذي يعتقد أنه كان كاهناً على مدينة بيروت، عاش في القرن الحادي عشر ق.م والذي كان حياً قبل حرب طروادة Troy".
ملحمة بعل وعناة
ملحمة تمثيلية رائعة، تفسر بطريقة شعرية، تعاقب الفصول الرتيب، وعلاقة الآلهة بهذا التعاقب، وبأثره في الحياة الزراعيه. وقد وجدت منقوشة، على سبعة الواح فخارية، أصابها التلف، لدرجة أصبح معها من الصعب ترجمتها، وربط مختلف المشاهد والحوادث، لتصبح قصة واحدة متصلة متكاملة.
وشخصيات هذه الملحمة وأبطالها، هم الآلهة الكنعانية، وعلى رأسهم "إيل El" ابو البشر، الخالق، رب الدهور، ولقبه "الثور" و"عشيرة" أو "أثيرة" قرينة إيل. و "موت" إله القحط والصيف، ورمز الجحيم، و"عناه Anat" أي الزمان، وهي البتول ربة الينابيع و "بعل Baal" هو الشخصية المحورية في القصائد!..
وقد ذكر المؤرخ (د.فيليب حتي( أن من المحتمل أن هذه القصيدة كانت تمثل كمسرحية على الساحل السوري، قبل أن يفكر اليونانيون بالمسرحية بعدة قرون!..
والاله "بعل" لايزال حياً في سوريا الى اليوم، في أسماء بعض القرى والمواقع، والأرض البعليه، وفي الفاكهة البعلية، والخضار البعلية، وهي أفضل الفاكهة وأطيب الخضار، وذلك أن "بعل" يتعهدها وملحمة بعل هي مجموعة قصص زراعية أوغاريتية، ترسم صورة واضحة لـ "بعل" فتقدم لنا صفاته ونشاطه، وعلاقته بظواهر الطبيعة، حيث أنه كمسؤول عن المطر، يسبب إخصاب الأرض والزرع، ويسمح للحياة أن تستمر. وترمز "العاصفة" الى شجاعة هذا الاله الشاب، والى قوته وقدرته، بينما يرمز المطر الى صفة العناية الالهية في شخصية "بعل".
وكلمة "بعل" تعني "السيد" ومن القابه: "العلي" و "راكب الغيوم" الرعد هو صوته، والأسلحة التي يحملها تجسد الصاعقة.
وتبين النصوص ان لـ (بعل) ثلاث بنات: الاولى "طلي" واسمها يعني الطل أو الندى، والثانية تدعى (أرصي) أي الأرض أو التربة. اما الثالثة فهي (فدري) واسمها يعني "بنت النور" ولايجهل أن النور والمطر والتربة هي العناصر الأساسية اللازمة للزراعة.
وتتألف ملحمة بعل من ثلاثة مواضيع هي:
1/ معركة بعل ضد يم.
2/ بناء قصر بعل.
3/ الصراع بين بعل وموت.
في صراع "بعل" ضد "يم" هناك مفهوم خاص بدئي، هو أن "بعل" حامي البشر، له حق فى الدفاع عن شواطئ أوغاريت، ضد هجمات البحر، التي تحدث من وقت لآخر محدثة الأضرار، و"بعل" من نحو آخر هو حامي الملاحين.
وتقدر قصيدة بعل ويم بـ (400 سطر) وعندما ينتصر بعل على يم، تتوسط (عناة) البتول ربة الينابيع لدى (إيل) كبير الآلهة، ليكون هناك قصر لـ(بعل)، ووصلت الى مصب الأنهار حيث يسكن (إيل) أبو البشر. وبفضل (عناة) صار لبعل قصر فخم.
ومجرى الأحداث في الصراع بين بعل وموت، يوضح دور الطبيعة حيث الخصب ونمو النبات، بعودة اله المطر، وإنتصار (بعل) ومعاناة القحط والجدب، بإنتصار (موت) وتقول الملحمة:
"طوراً ترجع كفة بعل، وطوراً ترجح كفة موت، يتناطحان كعجول البرية، جولة لبعل وجولة لموت"!..
رسالة بعل الى عناة
يرسل بعل مبعوثين الى عناة، داعياً أياها الى الحضور الى مقره طالباً منها أن تتزين، وأن تتغنى بحبه. البعل يخاطب الرسولين قبل أن ينطلقا: "هكذا تدخلان،وعلى قدمي عناة تسجدان، وتكرمان العذراء يمامة الأمم، وتنقلان رسالة البعل العلي، كلام البطل الجبار:
"اجعلي الأرض تنتج طعاماً.. ضعي في التربة بذوراً، وانشري السلام على الأرض، وكثري الخيرات في الحقول!..
تعالي..أسرعي.. عجلي.. ولتسرع قدماك نحوي، لأن لدي ما أقوله لك.. كلمات أبلغك إياها.. حديث الشجر، وهمس الحجر، وماتهمس به السموات في أذن الأرض، وما تقوله المهاوي للنجوم.
أنا أعرف البرق الذي تجهله السماوات، وأعرف كلاماً يجهله البشر، ولاتفهمه جموع الأرض!..
تعالي.. وأنا أكشفه لك.. في وسط جبلي (صافون) المقدس.. في جبل ميراثي.. في النعيم.. على مشارف النصر"!.. (صافون: الجبل الأقرع)
أسطورة أقهت بن دانيل
ترجع كتابة هذه الأسطورة الى القرن (14 ق.م) وهي تروي قصة رجل عادل، أصبح لكثرة عدله وكرمه، أسطورة تتناقلها الأجيال.. قصة هذه الأسطورة، مفهومة من خلال النصوص، مع غموض في بعض المقاطع، وتشويه في النقوش، ويجدر بنا هنا أن نلفت النظر الى مايلي، لتكون النصوص أقرب الى الفهم.
-لاوريث للملك (دانيل) الصالح والنقي. والاله (إيل) بعد دانيل بولد يكون معجزة، حيث أن نزول المطر، مشروط ببقائه على قيد الحياة.
-دانيل يتوصل الى الحصول على قوس لابنه، ليعطيه قوة الاله . لكن الربة (عناة) تحسد (أقهت) فينكسر القوس ويقع في الماء!..
-تبتئس (عناة) وتعد باعادة (أقهت) الى الحياة.. والاله بعل يرسل الأمطار، بعد قيامة البطل وبعثه!..
-إن موت (أقهت) الذي ينتهي بقيامته، واستعادة القوس والاقتصاص من القاتل، واضح من خلال النصوص، لكن باقي النص مازال مفقوداً.
وهذا مقطع من قصيدة، يتحدث فيها (دانيل) عن طول الجفاف فى الحقول، بعد انحباس المطر:
"لاندى ولاغيث.. الوديان لم تمتلئ
ولم يعد صوت بعل الرخيم (الرعد)!..
ويرفع (دانيل) صوته لاستنزال المطر، ويصلي قائلاً:
"فليهطل المطر في فصل الجفاف
فلترسل السحب رذاذ الخريف
وليسق الندى عناقيد الصيف"
ونحن نلمس في هذين المقطعين، غنائية النص، وجمال صوره، ولطف ايقاعه!..
-في كتاب الف ليلة وليلة (طبعة الصالحاني) قصة عن (حاسب كريم الدين بن دانيال الحكيم (رقم الصفحة 483) تشبه قصة دانيال الأوغاريتي. ونحن لانشك في أن (دانيال) الذي ذكره النبي حزقيال (القرن 6ق.م) ودانيال الحكيم، الذي يعزي إليه سفر في التوراة.
ودانيال الف ليلة وليلة.. جميعهم بقية باقية، من قصة دانيال الأوغاريتي، الذي يجسد القاضي العادل الرحوم.