سورية ـ عقدة الشرق ـ في انتظار المصير بقلم د.علي أحمد جديد

 
 
 
إن ما يجري في سورية اليوم ، يُحَتِّمُ العودةَ إلى جذور الأزمة وأساساتها ، لأن ما نراه ليس مجرد أزمةٍ سياسية أو حربٍ أهلية عابرة ، بل هو امتداد لصراعٍ طويلٍ على هذه الأرض التي كانت دائماً نقطة الارتكاز في ميزان منطقة الشرق الأوسط ، بل وفي ميزان العالم بأسره . وسورية ليست مجرد قطعةٍ
 كغيرها من الجغرافيا ، وإنما هي تاريخ طويل من التوازنات المضطربة بين مراكز القوى المحلية والإقليمية والدولية .
ومنذ اتفاقية سايكس - بيكو المشؤومة ، كانت سورية تمثل أهمَّ عقدةٍ للمصالح الدولية في المنطقة ، لأن موقعها الاستراتيجي بين البحر الأبيض المتوسط وآسيا جعلها عرضةً دائمةً للأطماع ، ليس فقط من القوى الاستعمارية ، بل وأيضاً من جيرانها الذين يَرَونَها فرصةً في امتداد النفوذ والهيمنة الدولية على منافذ العالم .
ولهذا ، فإنه منذ اندلاع شرارة احتجاجات ـ الربيع العربي ـ عام 2011 أصبحت سورية الحالية بلداً مُنهَكاً اقتصادياً واجتماعياً ، كان يُثقلها نظام سياسي مركزي يُحكِمُ قَبضَته على الدولة منذ عقود . إلا أن ما بدأ كاحتجاجات مطلبية سرعان ما انقلب إلى ثورةِ صراعٍ مُسَلَّحٍ تُغذيها حسابات إقليمية ودولية ، وتُديرها أيادٍ متعددة ، لكل يدٍ منها أهدافها وأطماعها .
ومن هنا بدأ الانهيار ، فالدولة التي كانت تاريخياً تحت مطامع التقسيم أصبحت ساحةً مفتوحةً لكل مَن أراد أن يلعب دوره في الصراع . وسقوط النظام الأسدي الذي دام لأكثر من نصف قرنٍ من السنوات لم يكن نهايةً للصراع عليها ، بل كان بدايةً لفصلٍ أكثر تعقيداً ومأساوية ، لأن الدولة السورية ، التي كانت تُحكَمُ بقبضةٍ حديديةٍ ، صارت مُجزّأةً بين أطرافٍ محليةٍ وإقليمية ، ولكل طرفٍ مطامعه وأجندته وإيديولوجيته .
وبات الجولاني أو أحمد الشرع اليوم قائد المرحلة الانتقالية التي تتسمُ بالفوضى ، كما باتت محاولاته في تقديم نفسه كرجل الدولة الجديد في سورية تُقابَل بشكوكٍ كبيرة . وبينما يُطلِقُ التصريحات التي تتحدث عن ـ الحرية و الاعتدال ـ فإن الواقع على الأرض يُظهر صورةً مختلفة ، حيث تُمارَسُ تجاوزات بحَقِّ أبناء مصطلح الأقليات الجديد والطارئ على الوجدان السوري منذ بدء التكوين ، وبصورةٍ خاصةٍ مايحدث في أرياف حمص والساحل ، ولاسيما بحَقِّ العلويين الفقراء الذين وجدوا أنفسهم في مرمى النيران ، لا لشيء سوى لأنهم ينتمون إلى طائفةٍ استُخدِمَت كأداةٍ في الهيمنة والصراع ، رغم أن أغلبَ أبنائها لم يكن لهم نصيب من امتيازات النظام ، تلك الامتيازات التي اقتصرت على ثلَّةٍ قليلةٍ من الضباط الكبار ومن التجار المتنفذين والسياسيين الذين كانوا من كافة أطياف الشعب السوري بكل طوائفه ومذاهبه ، وليس من طائفة مُحَدَّدةٍ بعينها . وبات الرئيس الإنتقالي تجسيداً لحالة من “الاعتدال المُتشدّد” ، يحاول الموازنة بين الداخل وبين الخارج ، كما باتت المعادلة السورية أكثر تعقيداً من أن تُحَلَّ بشعاراتٍ باهتةٍ أو بصفقاتٍ هنا وهناك . 
إن ما يجري في سورية اليوم يُعيد إلى الأذهان لعبة الأمم التي شهدتها المنطقة في القرن الماضي . بدءاً من روسيا ، التي دفعت بثقلها العسكري والديبلوماسي لإنقاذ النظام ، والتي لا تُخفي طموحاتها في الحفاظ على موطئ قدم استراتيجي في الساحل السوري من شرق المتوسط ، وهو هدف يتجاوز مجرد دعم الحليف .
أما تركيا من جهتها ، فهي تسعى لاستعادة نفوذها العثماني القديم ، بأدواتِ أخوَنَةٍ حديثة ، ومشروعها في الشمال السوري ليس فقط لضمان أمنها القومي من المشروع الكردي ، بل أيضاً لترسيخ وجودٍ طويلِ الأمد يُعيد رسم الحدود السياسية والنفوذ الإمبراطوري الذي كان يحكم الإقليم لأكثر من أربعة قرون
أما الولايات المتحدة الأمريكية ، و رغم التصريحات المتضاربة لإدارة الرئيس ترامب ، فإنها لا تزال تنظر إلى سورية كساحةٍ للصراع مع روسيا وإيران . وبينما تُقلّص وجودها العسكري ، فإنها تُحاول تَركَ بصمةٍ اقتصادية وسياسية تضمن عدم خروج سورية بالكامل من دائرة نفوذها العالمي . بينما يُديرُ الكيان الإسرائيلي سياساته نحو سورية بمنتهى البراغماتية ، لأنه ليس معنياً بمن يحكم دمشق بقدر اهتمامه بعدم السماح لإيران أو حزب الله بترسيخ وجودٍ عسكري يُهدد حدوده الشمالية . ولهذا ، يهتم الكيان بتأجيج الصراعات الطائفية والعرقية كي تصبح سورية دولة مُقَسَّمَةً بفعل الأمر الواقع ، ولا تستطيع بناءَ دولةٍ مركزيةٍ قوية ، ولا إعادةَ بناءِ جيشٍ يُشَكِّل تهديداً مباشراً له . في حين أن المشهد السوري الداخلي يعكس حالة من الفوضى العارمة . ففي الشمال الشرقي ، يعيش الأكراد حالةً من الترقب، حيث يبدو مشروعهم القومي مُعلَّقاً على خيوطٍ واهية ، تُحاصرهم تركيا من الشمال ، وتُحاولُ الحكومة الانتقالية استيعابهم دون منحهم ما يحلمون به من حكمٍ ذاتي واسع الصلاحيات ، بينما تبقيهم الولايات المتحدة الأمريكية في حالة انتظار طويل لموقفٍ غير واضح الملامح .
أما السويداء ، فإن الوضع فيها لا يقل تعقيداً ، لأن الطائفة الدرزية ، التي حاولت النأي بنفسها عن الصراع الداخلي ، تجد نفسها في مواجهة تحديات أمنية وسياسية ، مع وجود فصائل مُسَلَّحة ذات ولاءاتٍ مختلفة بين الوطن السوري وبين الكيان المحتل ، إضافةً إلى الفصائل في درعا وحوران ذات الولاء الروسي .
إن استشراف المستقبل حسب المعطيات الحالية يدل بأن سورية ، ستظل دائماً نقطة الصراع الرئيسية في الشرق الأوسط ولسنوات طويلة قادمة . ولهذا فإن القوى الدولية والإقليمية لن تسمح بحَلٍّ جذري يُخرِجُ سوريةَ من دائرة النفوذ . بينما الأطراف المحلية ، رغم ما قدمته من تضحيات ، لا تزال بعيدةً عن امتلاك زمام المبادرة !!. وبالطبع ، فإن ذلك سيكون له تداعياته الكبيرة على دول الجوار .
والتاريخ يثبت بأن عدم الاستقرار في سورية يُمثل زلزالاً مستمراً تهتز له كل أركان الدول المحيطة . فبُنيةُ تركيا الاجتماعية والطائفية تشبه سورية إلى حدٍّ كبير ، خاصة مع وجود الأقليات الكردية والعلوية في تكوينها الاجتماعي . والتوترات في سورية تنعكس مباشرة على الداخل التركي ، وأصبح الشمال السوري ساحةَ مواجهةٍ بين أنقرة وبين المشروع الكردي الإنفصالي ، مما يزيد من استقطاب الداخل التركي للقوى القومية التركية والإسلامية ، وأخرى علمانية . 
ويبقى لبنان هو الأكثر هشاشة أمام تداعيات الصراع السوري . لأن النفوذ الإيراني عبر حزب الله ، والنفوذ السعودي على المارونية السياسية وحلفائها ، وتدفق اللاجئين ، والتوترات الطائفية كلها تجعل لبنان على حافة الانهيار ، لأن سورية ليست فقط بوابة لبنان الشرقية ، بل هي شريانه الاقتصادي والسياسي . وكذلك الأردن الذي بات يتحمل أعباء اللاجئين والتحديات الأمنية الناجمة عن وجود تنظيمات متطرفة قرب حدوده الشمالية . ورغم استقراره النسبي ، إلا أن الأزمة السورية وضعت المملكة الهاشمية في موقع حساس من محاولات الموازنة بين الضغوط الدولية والإقليمية وبين الإصرار الأمريكي على ترحيل الفلسطينيين إليها لتكون الوطن البديل .
وكذلك هو العراق الذي يعاني من حالة مشابهة للحالة السورية ، حيث النفوذ الإيراني و الأمريكي ووجود الحشد الشعبي والفصائل الشيعية ، ووضع إقليم كردستان في الشمال العراقي يضعف الدولة المركزية وحكومتها في بغداد ، بينما أصبحت الحدود المشتركة مع سورية مسرحاً لنقل الأسلحة والمقاتلين المتطرفين ، وذلك ما يُعمّق الانقسام داخل العراق نفسه . 
ولهذا فإن سورية اليوم ليست مجرد ساحة صراع وحسب ، بل هي مرآة تعكس حالة الشرق الأوسط كله . وسيُحدِّدُ مصيرُها المُنتَظَر مستقبلَ المنطقة . لكن المُقلقَ في الأمر أن الحلول المفروضة من الخارج لن تُحقق الاستقرار بالتأكيد ، لأن التاريخ عَلَّمَنا أن أي تسوية حقيقية يجب أن تكون من الداخل عبر مصالحةٍ وطنية تُعيدُ بناءَ الدولة على أسسٍ جديدة وشاملة لجميع مكوناتها الاجتماعية والعِرقية والمذهبية .
و إلى حين تَحقُّقِ ذلك ، ستبقى سورية زلزالًا تتردد ارتداداته في كل دول المنطقة ، لأنها كانت تاريخياً وحضارياً عقدة الشرق والتي ستُعيد تشكيل مصيرِ أبنائه الإنساني .