الوضع الاقتصادي الذي نمر به حاليا ومن قبل نتيجة عوامل وسياسات متعددة، جد خطير ويحتاج إلى مشرط طبيب ماهر لديه الخبرة والعلم والشجاعة لمواجهة هذه المشكلة المستعصية، ووضع الحلول "المرة" لها حتى ننتقذ مصرنا الحبيبة من سيف صندوق النقد الدولي المسلط على رقابنا جميعا، ولتكن البداية – كما أكدت على ذلك مرارا وتكرارا في عدة مقالات سابقة - هي آخر التجارب العظيمة التي مرت بها دول قبلنا، استطاعت - رغم التحديات والظروف العصيبة التي واجهتها - أن تصنع مكانا لها بين الكِبار، وتخرج من وسط الركام أكثر قوة وتصميمًا على تغيير وضعها الاقتصادي المأساوي وبناء ذاتها.
إنها البرازيل يا سادة.. أو "اليابان الجديدة"، كما يطلقون عليها، لقد آمنت تلك الدولة بـ " قوة الإرادة.. وإرادة القوة "، ومن ثم رفضت الهزيمة والانسياق خلف مشاكلها المزمنة، وكسرت طوق التخلف والجهل وضنك المعيشة، لتنصع لنفسها مجدا ورفاهية يليقان بتاريخها وشعبها، على الرغم من أن سكانها كانوا يعيشون حياة بدائية تتسم بالفقر والجهل لتقدم لشعوب لعالم تجربة فريدة وملهمة.
فمن هم في مثل عمري يتذكرون جيدا عام 1979 الذي شهد فيه العالم أزمة نفط عاصفة تسببت في صدمة وذهولا لجميع دول العالم دون استثناء، وكانت تلك الأزمة بمثابة سنوات الضياع للمارد البرازيلي، فكانت نتيجتها تضاعف أسعار واردات النفط البرازيلية، مع ارتفاع معدلات الفائدة وانخفاض أسعار المواد في السوق العالمية، في الوقت الذي سجل فيه العجز بالميزان التجاري البرازيلي عام 1979 ثلاثة أضعاف ما سجله في العام 1978، فكانت كارثة حقيقية حلت بالتجربة البرازيلية الصاعدة فدخلت بذلك في مشاكل مستعصية، كانت في مقدمتها الديون الخارجية التى وصلت إلى أعلى نسبة لها على مستوى العالم.
وغرقت البرازيل في الديون حد الإفلاس، كما كانت شروط صندوق النقد الدولي مجحفة من أجل الحصول على قروض جديدة، مما جعلها ترضخ مبدئيا لتلك الشروط كي تقترض مبلغا ضخما وصلت قيمته إلى 30 مليار دولار من أجل القيام بالإصلاحات الاقتصادية المشروطة من الصندوق، ورغم استجابة البرازيل لشروط الصندوق، إلا أن أزمتها استمرت في التفاقم أكثر فأكثر، وأصبح 1% فقط من سكانها يحصلون على نصف الدخل القومي، وهبط ملايين المواطنين تحت خط الفقر، الأمر الذي دفع قادة البرازيل إلى الاقتراض من الصندوق مرة أخرى بواقع 5 مليارات دولار، معتقدين أن هذا هو الطريق للخروج من الأزمة.
عندئذ تدهورت حياة البرازيليين بشكل مخيف، وأصبحت البرازيل، هي الدولة الاكثر فسادًا وطردًا للمهاجرين، بل والأكبر في معدل الجريمة وتعاطي المخدرات والديون في العالم، حيث تضاعف الدين العام 9 مرات خلال 12 عاما، الأمر الذي جعل صندوق النقد الدولي يهدد بإعلان افلاس البرازيل لو لم تسدد فوائد قروضها، وليس هذا فحسب، بل رفض هذا الصندوق منحها أي قروض آخرى في نهاية 2002، ومن ثم انهارت البرازيل بالفعل عملتها حتى وصل سعر الدولار إلى 11 الف كروزيرو، وفي هذه الحالة، أصبحت البرازيل على شفا عملية الاحتضار......!!
عام 2003 تم انتخاب لولا دا سيلفا ( الرئيس الحالي ) رئيسًا للبرازيل، حيث عاني هذا الرجل فترات طويلة من الفقير والجوع وظلم الاعتقال ( كان يعمل ماسح احذية )، وهذا الأمر كان محل خوف وقلق من رجال الأعمال البرازيليين، ظنا منهم أن الرئيس الجديد سيسلبهم أموالهم، أما الفقراء فاعتقدوا أنه سيسرق ما تبقي معهم كي يعوض فترات حرمانه، لكنه لم يفعل ذلك، وإنما قال: "التقشف ليس أن أفقر الجميع، بل هو إن الدولة تستغني عن كثير من الرفاهيات لدعم الفقراء"، كما قال كلمته الشهيرة :"لم ينجح أبدا صندوق النقد إلا في تدمير البلدان".
ومن هنا اعتمد هذا الرئيس على قدرات مواطنيه وثروات بلده، ووضع بند في الموازنة العامة للدولة اسمه "الإعانات الاجتماعية المباشرة" وقيمته 0.5% من الناتج القومي للدولة، يصرف بصورة رواتب مالية مباشرة للأسر الفقيرة، يعنى استبدل الدعم العيني بدعم نقدي، وهذا الدعم كان يدفع لـ 11 مليون أسرة فقيرة، تشمل 64 مليون برازيلي، فكانت قيمته حوالي 735 دولارًا ، أي حوالى 13 ألف جنيه مصري، على اعتبار ان سعر الدولار 17.687 جنيها حينئذ لكل أسرة شهريا، وهنا نطرح السؤال التالي: من أين كل هذا والبرازيل كانت مُفلسة.....؟!
وهنا تأتي الإجابة، لأن هذا الرئيس رفع الضرائب على الكل، ما عدا المدعومين ببرنامج الإعانات، يعني رفع الضرائب على رجال الأعمال والفئات الغنية، وهنا نسأل سؤالا آخر:
- وهل وافق رجال الأعمال والأثرياء على ذلك ببساطة.... ؟!، التجربة أكدت أنهم كانوا سعداء جدًا، لأن الرئيس منحهم تسهيلات كبيرة في الاستثمار وآلية تشغيل وتسيير أعمالهم ومنح لهم الأراضي مجانا، بل وتسهيل التراخيص وأعطاهم القروض بفوائد صغيرة لمساعدتهم في فتح أسواق جديدة، فزاد دخل الفقراء وتضاعفت عملية شراء منتجات رجال الأعمال، فتضاعفت بذلك حجم مبيعاتهم، لذا لم يشعر رجال الأعمال أنها جباية، بل كانوا يدفعون الضرائب عن طيب خاطر مقابل تسهيلات أصبحوا يكسبوا أكتر منها .
بعد 3 سنوات فقط عاد إلى البرازيل حوالي مليونا مهاجر برازيلي، وجاء معهم 1.5 مليون أجنبي للاستثمار والإقامة في البرازيل، وخلال 4 سنوات فقط، سددت البرازيل كل مديونيتها لصندوق النقد، بل إن الصندوق اقترض من البرازيل 14 مليار دولار أثناء الأزمة العالمية في 2008 بعد 5 سنين فقط من حكم لولا دا سيلفا، هو نفس الصندوق الذي كان يريد أن يشهر إفلاس البرازيل في 2002 ورفض منحها أي قروض أخرى لتسدد فوائد القروض، كل ذلك بفضل تركيز دا سيلفا على 4 أمور:
أولا: التعدين، ثانيا: الصناعة، ثالثا: الزراعة، رابعا: التعليم، فكانت النتيجة أن البرازيل وصلت إلى سادس أغنى دولة في العالم في آخر عام من حكم "سلفا"، وأصبحت تصنع الطائرات (أسطول طائرات الإمبريار برازيلية الصنع)، كما دشنت أول غواصة نووية (فقط 5 دول في العالم تصنع غواصات نووية امريكا - روسيا - الصين - بريطانيا - فرنسا)، أول غواصة كانت بالتعاون مع فرنسا، كما دشنت الغواصة الثانية في 2020، والثالثة فى بداية 2022 – بحسب الخبراء - بصناعة برازيلية خالصة.
بعد انتهاء ولايتي حكم لولا في 2011، وبعد كل هذه الإنجازات الحقيقية على أرض الواقع، طلب منه الشعب أن يستمر ويعدلوا الدستور، رفض بشدة وقال كلمته الشهيرة "البرازيل ستنجنب مليون لولا، ولكنها تملك دستورا واحدا"، وترك الحكم .
إذا النهوض من التخلف ليس مستحيلا، إنها إرادة وإدارة ، ويحدث في سنوات معدودة فقط والطريقة معروفة ومحددة كما فعلت البرازيل: (التعدين، الصناعة، والزراعة)، ثم الاهتمام بالفئات الفقيرة والتعليم، لا شيء، وهذا ما فعلته: ألمانيا، واليابان في ستينات القرن الماضي ،وكذلك دول دول شرق آسيا في الثمانينات، وهذا ما بدأته أيضا الهند في التسعينات.
تلخيصًا.. أتمنى أن تؤخذ تجربة البرازيل الناجحة في الحسبان من جميع الأطراف الوطنية المخلصة، وكذلك الفئة المعنية والمحيطة بالسيد الرئيس، كما نتمني من السيد الرئيس ومعاونوه ألا نرى في المناصب المهمة، وجوها سئمناها وكانت سببًا رئيسيًا في معاناة الأغلبية، وجوها تاجرت بـ: قوتنا الناعمة، ثقافتنا، تعليمنا، مسكننا، مأكلنا، مشربنا، صحتنا، آلامنا، أفكارنا و... تحت مسميات وأوهام ما أنزل الله بها من سلطان، ونتمنى أيضا في الوجوه التي تتولى أي مسئولية حاليا أن يكونوا خبراء، علماء، وطنيون، مخلصون، ومتخصصون في كافة الملفات التي تحتاج إلى حلول عاجلة وآجلة على السواء وفي مقدمتها:
- الاقتصاد، التعليم، الثقافة، الصحة، القانون، البيئة، الطاقة، الزراعة، الصناعة،ال ري و... وأعتقد أن جامعاتنا بها علماء وطنيون - ملهمون في كافة المجالات السابقة، إضافة إلى أهل الخبرة من الشخصيات العامة المشهود لها بالوطنية، هؤلاء هم فقط يستطيعون - من خلال علمهم وخبرتهم - أن يكونوا صمام الأمان الحقيقي للوطن من ناحية، ومن الناحية الأخرى يكونوا سندًا ودعمًا حقيقيًا لصانع القرار.. وللحديث بقية.