محيي الدين إبراهيم يكتب : «بليغ حمدي» حكاية موسيقار عاش ليحلم ورحل ليخلد حلمه

محيي الدين إبراهيم يكتب : «بليغ حمدي» حكاية موسيقار عاش ليحلم ورحل ليخلد حلمه
محيي الدين إبراهيم يكتب : «بليغ حمدي» حكاية موسيقار عاش ليحلم ورحل ليخلد حلمه

 

 

 

لم يكن بليغ حمدي مجرد موسيقار، بل كان طيفًا يجسد فكرة أن الموسيقى ليست فنًا فقط، بل هي شكلٌ من أشكال الوجود، كان كائنًا استثنائيًا يسكنه صمت المتأمل وضجيج الحالم، يترجم كل لحظة يعيشها إلى نغمة تلامس الأرواح.

لقد عاش بليغ كمن يسير على خيطٍ رفيع بين الواقع والحلم. لم يكن يخطط لموسيقاه، بل كانت هي من تأتي إليه، كما تأتي الرؤى إلى ناسك في لحظات السكينة، لكونه كان مؤمناً بأن اللحن كائن حي، يولد في لحظة استثنائية ويعيش إلى الأبد.

 

النشأة: بيئة فنية ترسم طريق العبقرية

في حي شبرا العريق بالقاهرة، وفي 7 أكتوبر 1931، ولد بليغ عبد الحميد حمدي سعد الدين مرسي، ليصبح أحد أعظم الملحنين في تاريخ الموسيقى العربية. لم يكن بليغ مجرد موسيقار بل كان عاشقًا متصوفًا، جاب عوالم الروح والتراث ليصوغ ألحانًا تحمل بين طياتها نبض الإنسان، شجن الحياة، وجمال الحلم. في مسيرة امتدت لستة عقود، أرسى بليغ دعائم مدرسة موسيقية جديدة، مزج فيها بين التراث الشعبي المصري والتجديد الموسيقي العالمي، ليصبح رمزًا خالدًا في وجدان العرب.

 

البدايات: انطلاقة شاب عاشق للفن

نشأ بليغ في بيت يجمع بين العلم والفن؛ والده، أستاذ الفيزياء، كان يعزف على البيانو، وكان بيت الأسرة يعج بموسيقيين مثل زكريا أحمد والقصبجي، الذين كانوا يعقدون مجالس للطرب والأنغام. منذ نعومة أظفاره، أظهر بليغ ولعًا فطريًا بالموسيقى، وتعلم العزف على العود وهو في التاسعة من عمره. عندما بلغ العاشرة، أهداه والده عودًا خاصًا، ليبدأ مسيرة عشق أبدية مع الأوتار، وقد حاول بليغ الالتحاق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى وهو في الثانية عشرة، لكن صغر سنه حال دون ذلك، فواصل تعليمه الموسيقي في مدرسة عبد الحفيظ إمام وتلقى دروسًا متقدمة في الموشحات العربية على يد درويش الحريري.

 

بليغ والتجديد الموسيقي: عبقري الإيقاع

كان بليغ رائدًا في المزج بين الإيقاعات التقليدية وروح التجديد. في أغنية "حاول تفتكرني"، أدخل إيقاعًا مغربيًا لم يكن مألوفًا في الأغنية العربية، كما ابتكر تركيبات إيقاعية جديدة مثل الجمع بين الفالس والسماعي الثقيل في مقدمة أغنية "الحب كله" لأم كلثوم، ما أضاف بعدًا عاطفيًا عميقًا للأغنية.

 

بداية الظهور:

ظهر اسم بليغ حمدي للمرة الأولى في وسائل الإعلام سنة 1954، يوم أن قدَّمته الإذاعة المصرية كمطرب جديد، في منتصف ديسمبر، حيث نشرت مجلة «الفن صورة لهذا المطرب، وقالت إن الإذاعة بثّت أغنية "قلبي من الشوق يا جميل سهران ينادي عليك" المسجلة على لحن أغنية من الفيلم الإيطالي «آنا» بكلمات مصرية وضعها سعيد المصري، غنّاها «المطرب الجديد بليغ حمدي، وهو شاب اكتشفته الإذاعة حديثًا في برنامج الهواة، ولكن لم تطل مسيرة هذا المطرب الجديد، فبعد فترة وجيزة، اتجه إلى التلحين، كانت أول نقلة حقيقية في حياة بليغ يوم أن أُعلاِنَ أن المطربة فايدة كامل ستغني "ليه لأ" من ألحان بليغ حمدي، وحققت نجاحًا كبيرًا بعد تسجيلها في الإذاعة، لتطلب منه تلحين أغنيتين – إحداهما "ليه فاتني ليه" حققتا النجاح نفسه.، ثم في عام 1955 سجلت له شركة «كايروفون» 6 أسطوانات، وسافر في ذلك العام مع فايدة كامل لبيروت، فتلقفه المطربون والمطربات وطلبته الإذاعة السورية، ليسجل في أربعة أشهر 22 لحنًا لعددٍ من مطربي سوريا ومطرباتها أهمها لحن "ما تحبنيش بالشكل ده"، للمطربة فايزة أحمد التي لم تكن وصلت إلى القاهرة بعد، وعندما جاءت للقاهرة طلبته ليلحّن لها أغنية "حسّادك علموك"، ليبدأ اسمه كملحن يتردد بقوة في الوسط الغنائي العربي.

 

 

التحليل الكمي:

بليغ حمدي كان أحد أكثر الملحنين غزارة في الإنتاج في تاريخ الموسيقى العربية. قدم أكثر من 1500 لحن، وكان له تعاون واسع مع أبرز نجوم الغناء في العالم العربي. نستعرض فيما يلي عدد وأسماء النجوم الذين غنوا من ألحانه وأبرز أعمالهم:

أم كلثوم، عدد الألحان: 11 لحنًا، عبد الحليم حافظ، عدد الألحان: 31 لحنًا، وردة الجزائرية، عدد الألحان: أكثر من 80 لحنًا، شادية، عدد الألحان: حوالي 20 لحنًا، نجاة الصغيرة، عدد الألحان: حوالي 15 لحنًا، صباح، عدد الألحان: 8 ألحان، محمد رشدي، عدد الألحان: 10 ألحان، سميرة سعيد، عدد الألحان: حوالي 20 لحنًا، ميادة الحناوي، عدد الألحان: 10 ألحان، عزيزة جلال، عدد الألحان: 4 ألحان، هاني شاكر، عدد الألحان: 12 لحنًا، سيد النقشبندي، عدد الألحان: 8 ابتهالات، علي الحجار، عدد الألحان: 5 ألحان، عفاف راضي، عدد الألحان: أكثر من 15 لحنًا، هذا إلى جانب ذلك، قدم ألحانًا للعديد من الفنانين على رأسهم الفنانة ليلى مراد، فايزة أحمد، محمد العزبي، لطيفة، ذكرى، أحمد عدوية، ونجوم آخرين من مختلف أنحاء العالم العربي.

 

 

التحليل الكيفي

لاشك أن بليغ حمدي ترك بصمة موسيقية خالدة قائمة على مزج عبقري بين الأصالة والتجديد، وهو ما يتضح جليًا من سيرته الفنية التي حملت تحديات كبرى ورؤية موسيقية غير مسبوقة. نستعرض هنا من خلالها تحليلًا كيفيًا لجوانب موسيقاه :

1. التجديد في الإيقاعات

بليغ كان مبدعًا في استخدام الإيقاعات العربية التقليدية، لكنه أعاد صياغتها في إطار جديد، مبتكر وغير مألوف. ففي أغنية "حاول تفتكرني"، أدخل إيقاعًا مغربيًا غير مستخدم في الأغنية العربية التقليدية، كما استحدث أوزانًا جديدة مثل مزج "فالس" مع "سماعي ثقيل" في مقدمة "الحب كله"، ما أضاف أبعادًا عاطفية متعمقة.

2. الفلكلور الشعبي كمصدر إلهام

عمل بليغ على المزج بين الفلكلور المصري وروح العصر الحديث، حيث انطلق في جولة شاملة في القرى والنجوع المصرية لدراسة الألحان والإيقاعات الشعبية، ومن ثم قدم أغانٍ مستوحاة من التراث مثل "أنا كل ما أقول التوبة" و"سواح" لعبد الحليم حافظ، معتمدًا على الجمل اللحنية الشعبية وصياغتها بأسلوب موسيقي معاصر، كما قام في لحن للفنانة شادية "آه يا أسمراني اللون". باستخدام اللحن الشعبي بأسلوب جعل الأغنية تتجاوز المحلية لتصبح علامة موسيقية مميزة.

3. دمج الكورس في الأغاني

كان بليغ أول من جعل الكورس جزءًا حيويًا من الأغنية العربية، ففي أغنية "حكم علينا الهوى" لأم كلثوم، استخدم الكورال للتعبير عن دراما النص، مما جعل الأغنية تجربة جماعية للمستمع، أما في أعماله الوطنية مثل "يا حبيبتي يا مصر" لشادية، ظهر الكورس كعامل تعبير إضافي يضخم من الإحساس الجماعي ويخدم المعنى الوطني.

4. التنوع في القوالب الموسيقية

ألّف بليغ في جميع الأنواع الغنائية: العاطفية، والوطنية، والشعبية، والدينية، وحتى أغانٍ للأطفال.

العاطفية: مثل "بعيد عنك" و*"سيرة الحب"* لأم كلثوم، حيث أبدع في التعبير عن الحنين والشجن.

الوطنية: برزت مراحل كثيرة من مراحل الأمة، ففي النكسة كانت هناك موسيقاه التي تدعو للنهوض كما في أغنية عدى النهار، وبعد انتصار 1973 برزت موسيقاه في "عاش اللي قال" لعبدالحليم حافظ و*"يا حبيبتي يا مصر" وأيضا أغنية على الربابة لوردة الجزائرية، وكلها رغم اختلاف الحالة الوطنية كانت ألحانه تتسم بالبساطة رغم أنها تحمل طابعًا ملحميًا وهو ما جعلها قريبة من القلوب.

الدينية: في "مولاي" مع الشيخ النقشبندي، قدّم مزجًا بين الروحانية والموسيقى العاطفية، فكانت التجربة جديدة كليًا على التوشيح الديني.

5. الأوبريتات الاستعراضية

قدم بليغ حمدي عددًا من الأوبريتات الغنائية التي تُعد من أبرز إسهاماته في المسرح الغنائي العربي، وبلغت حوالي 7 أوبريتات، منها: جميلة، ، مهر العروسة، الزفة، الأرملة الطروب، ياسين ولدي، تمر حنة، وأخيرا حلاق بغداد استعراضات موسيقية غنائية، والتي حصل من خلالها على جائزة الدولة التشجيعية عام 1966.

6. اتجاهه للفلكلور المصري

تعاون بليغ حمدي مع الثنائي محمد رشدي وعبد الرحمن الأبنودي في مطلع الستينات فقدم الفلكلور المصري بكافة أنواعه وأرتامه وجمله الشجية فقدموا معاً عدداً من الأغنيات منها (عدوية / بلديات / وسع للنور) كما قدم لمحمد رشدي من كلمات آخرين (ميتى أشوفك / على الرملة / مغرم صبابة / طاير يا هوى).

7. السينما والمسرح والتلفزيون

وضع الموسيقى التصويرية لكثير من الأفلام والمسرحيات والمسلسلات التليفزيونية والإذاعية من الأفلام (إحنا بتوع الأتوبيس / شيء من الخوف / أبناء الصمت / العمر لحظة / مسافر بلا طريق / آه يا ليل يا زمن / أضواء المدينة)، ومن المسرحيات (ريا وسكينة / زقاق المدق / تمر حنه) ومن المسلسلات (أفواه وأرانب / بوابة الحلواني) والأخير هو آخر ما قام بليغ بتلحينه في حياته وهذا اللحن هو أكثر ما ساعد على نجاح المسلسل وسبب شهرته وشعبيته.

 

 

بداية النهاية .. المحنة والمقاومة

في منتصف الثمانينيات، تورط بليغ في قضية وفاة الفنانة المغربية سميرة مليان، التي توفيت إثر سقوطها من شرفة منزله. رغم تبرئته لاحقًا، اضطر للهروب إلى أوروبا. عاش في باريس ولندن لسنوات، يعاني من اغتراب نفسي شديد. في أحد لقاءاته، قال بليغ: "أنا عايش من قلة الموت"، في تعبير صوفي عن شعوره بالعجز والحنين للوطن، وحين عاد إلى مصر عام 1990، حمل معه مشروعين موسيقيين كبيرين: أوبرا عن إخناتون وأخرى عن توت عنخ آمون، لكن لم يمهله المرض لتنفيذها. بقيت تلك المشاريع حلمًا لم يتحقق، لكنها تعكس تطلعه الدائم لتقديم أعمال تمزج بين الموسيقى والتاريخ الإنساني.

 

النهاية

توفى بليغ يوم 12 سبتمبر 1993 عن عمر يناهز 61 عامًا. كان موته صامتًا، لكنه ترك إرثًا موسيقيًا صاخبًا، ألحانًا خلدت أصوات عمالقة الطرب العربي، وجعلته واحدًا من أعظم من عبّروا عن الروح الإنسانية بالنغم.