"أوبرا العتبة" هي مسرحية مصرية حديثة تُعرض على خشبة مسرح الطليعة، ومن خلالها يجب أن نقدم غاية الاستحسان للمخرج الفنان عادل حسان على جرأته في انتاج عرض بهذه الصورة المجنونة وغير المألوفة في عروض مسرحنا المصري، إذ من خلال هذا الجنون والغير مألوف يتم نقل مشاهد يومية واقعية من الحياة في منطقة العتبة وسط القاهرة، حيث تتناغم الثقافة الشعبية العشوائية مع أداء الأوبرا الكلاسيكية بأسلوب غير تقليدي.
العرض المسرحي من إخراج وتأليف هاني عفيفي، حيث يفتتح المسرحية بعرضٍ غنائي أوبرالي خارج المسرح مباشرة بين الباعة الجائلين، مما يثير تفاعل الجمهور بشكل جديد وغير معتاد، ويعكس الفجوة بين الثقافة الفنية الراقية والواقع الاجتماعي القاسي في الأسواق الشعبية وكذلك تناقضات المجتمع المصري بين العشوائية وصخب الحياة الاستهلاكية من جهة، وبين الفن والثقافة النخبوية المنعزلة من جهة أخرى، ولتحليل ونقد مسرحية "أوبرا العتبة" على مسرح الطليعة، يمكننا التركيز على عدة جوانب رئيسية تتناول الرؤية الفنية، الأبعاد الاجتماعية، والرسائل الفلسفية التي تجسدها المسرحية، اعتمادًا على مصادر متعددة.
1. الموضوع والبنية الدرامية:
تقدم "أوبرا العتبة" تجربة مسرحية تجمع بين الفضاء الشعبي (ميدان العتبة) والأداء الأوبرالي، مما يعكس التناقض بين ثقافة الاستهلاك الشعبي والفنون الراقية. تُفتتح المسرحية بأداء أوبرالي خارج المسرح بين الباعة الجائلين في السوق الشعبية، ليعبر عن الفجوة الواسعة بين المثقف أو الفنان والمجتمع العشوائي المحيط. تكمن المفارقة هنا في وضع الفن الراقي في قلب الفوضى، مما يجعل الجمهور يرى التباين الكبير بين عالمين متناقضين.
الأسلوب البنيوي والبنية السيمولوجية:
استند عفيفي إلى المنهج البنيوي القائم على تحليل العلاقات المتداخلة بين الشخصيات وبيئاتها، مما يعكس روح العشوائية. الشخصيات الرئيسية في المسرحية، مثل المثقف المنعزل الذي يؤدي دوره محمد عبد الفتاح، والسيدة الاستهلاكية التي تؤديها دعاء حمزة، تعكس مظاهر التناقض في العلاقات الاجتماعية. فالمثقف يعيش في عزلة عن عالمه، بينما تغرق السيدة في نزعة استهلاكية غير مبررة، مما يعكس العلاقة المتناقضة بين الاحتياجات الثقافية والأزمات الاقتصادية في المجتمع
2. التصميم المسرحي:
الديكور الذي صممه عمر غايات يعتمد على عناصر رمزية، مثل القوائم الخشبية التي تشير إلى التداعي والانهيار، مما يعكس حالة المجتمع ، وتحديدًا العشوائيات والمظاهر الاستهلاكية المفرطة. الغرفتان المنفصلتان على المسرح، حيث يعيش المثقف في عزلة داخل مكتبته بينما تزدحم السيدة بالأغراض المكدسة، تجسد العزلة الثقافية والتغريب الذي يشعر به المثقف في مجتمع مهووس بالاستهلاك، ولاشك أن للديكور دور رئيسي في تشكيل المعاني المعروضة على المسرح، حيث يعبر عن واقع ميدان العتبة كصورة مصغرة للحالة المجتمعية المهترئة، ويضع المشاهد في مساحة تماثل الميدان بما فيه من فوضى وتداخل.
3. تجسيد الفوضى والاستهلاك المفرط:
استخدم العرض شخصيات متنوعة من الباعة الجائلين والمارة لخلق جو من الفوضى العارمة، حيث جسدوا النمط الاستهلاكي البعيد عن الفكر أو الثقافة. المشاهد تكثف حضور السوق والعشوائية بمكبرات الصوت وصخب البائعين، لتعكس حياة الشارع في العتبة وتطرح إشكالية فشل "السيستم" أو النظام، في توفير بنية اقتصادية أو اجتماعية قادرة على استيعاب الناس وتلبية احتياجاتهم
4. الرسائل الاجتماعية والنقد الثقافي:
تناقش المسرحية قضايا اجتماعية عديدة، منها الاستهلاك المفرط، العشوائيات، وعزلة المثقف عن الجمهور. المسرحية تطرح تساؤلات حول دور المثقف والفنون الراقية في مجتمع مزدحم ومشوش، إذ تتجسد هذه العزلة من خلال شخصية المثقف الذي يبدو منفصلًا تمامًا عن هموم الناس، بينما يغرق الجمهور في ضجيج السوق ومظاهر الانحلال الاجتماعي. يحاول المخرج هاني عفيفي توظيف التناقضات لتوضيح الصدام بين الفئات المختلفة في المجتمع المصري
5. الأداء التمثيلي والإخراج:
يتسم الأداء التمثيلي بالشجاعة والجرأة، حيث يقوم الممثلون بأداء أدوارهم بواقعية عالية ويجسدون بسخرية ثقافة الشارع والباعة الجائلين. استخدم المخرج هاني عفيفي الأسكتشات المسرحية، دون اعتماد خيط درامي واحد، مما أتاح حرية أكبر لعرض القضايا المتعددة. كان دور المثقف (الذي أداه محمد عبد الفتاح) رمزًا لعزلة الفن عن المجتمع، بينما عبرت السيدة (التي أدتها دعاء حمزة) عن الاستهلاك المفرط وانعزال الإنسان في هوس امتلاك المزيد
6. الرمزية والفلسفة:
تم استخدام نصوص فلسفية مقتبسة، منها مقاطع من "أوديب" لسوفوكليس وقصائد لمحمود درويش، مما يضيف بعدًا فلسفيًا للنص. تهدف هذه العناصر إلى توصيل رسائل عن الهوية الثقافية، القيم المجتمعية، والعزلة الروحية التي يعيشها المثقف في مجتمع تسوده الفوضى. تشكل هذه الاقتباسات قاعدة لرسالة العرض حول الاغتراب والتناقضات المتجذرة في المجتمع
7. الرؤية النقدية النهائية:
يمثل عرض "أوبرا العتبة" تجربة مسرحية جريئة، تقدم مرآة تعكس الواقع الاجتماعي بطريقة ساخرة ونقدية، معتمدةً على تقنيات غير تقليدية في السرد المسرحي الذي يلتقي فيه الواقع بالخيال، ورغم أن المسرحية، رغم غناها البصري والفكري، قد تحتاج إلى عمق أكبر في بعض الشخصيات المهمشة، لتجسد القضايا المطروحة بشكل أوسع إلا أنها نقلت صورة واقعية وصادمة حيث سعى المخرج هاني عفيفي وفريقه إلى تجسيد الفوضى والاغتراب بأسلوب فني واعٍ جعل من العرض نقدًا صادقًا وحسّاسًا لما يعانيه المجتمع المصري من تناقضات، كما استخدم السخرية والتهكم كآلية للتعبير عن القضايا المجتمعية بشكل غير مباشر، مما أتاح له تمرير انتقادات شديدة للمظاهر الاستهلاكية والعشوائية دون الاصطدام بالرقابة وتعتبر "أوبرا العتبة" نموذجًا للتجريب المسرحي الذي يسعى لدمج الفنون الراقية بالواقع الشعبي، لتقديم نقد اجتماعي عميق للواقع المصري.
ومرة أخرى يمكن القول في النهاية إن هذا العرض هو مغامرة جريئة ومطلوبة وغاية في الرقي نحسبها للفنان عادل حسان مدير مسرح الطليعة.