تزعم الأسطورة اليابانية القديمة "نامازو" أن أسماك "المجداف Orafish" والتي يطلق عليها "ملك الرنجة " وهي ذات شكل مميز حيث الجسم الطويل الفضي المضغوط للغاية وتعيش في المياه العميقة على عمق واحد كيلومتر ونادرا ما تطفو على السطح فإذا حدث وعلت وصعدت إلى سطح البحر فذلك فأل شؤم وعلامة على أن زلزال واقع ليس له من دون الله دافع وأن الهلاك قاب قوسين أو أدنى ..هذه الأساطير لم تكن محض أوهام العامة دون الخاصة فأوقات كثيرة تشملها رعاية رسمية من أولى الأمر ففى فترة حكم "توكوغاوا إياسو " أحد موحدي اليابان كان سمك "القرموط" مقدسا باعتباره إله النهر ذلك أن ظهوره يعني هطول الأمطار الغزيرة والفيضانات والإنسان في الماضي كان يعبد ما يستعصي عليه دفعه ..لكن ماذا عن العلم الحديث ؟! هل ثمة ارتباط بين حركة الأسماك والزلازل ؟!..للوهلة الأولى والنظرة الأخيرة وبدون أدنى إرهاق للعقل..لا.. فالخرافة هي التي صنعت هذه الأساطير ..والعلم بأدواته لم يثبت مثل هذه المزاعم بل وينفيها طوال الوقت وأن ظهور الأسماك النافقة على مر البصر بالشواطئ يدل على كونها ضحايا كالبشر سواء بسواء من هذه الكوارث الطبيعية فالإرهاق يصيب الأسماك جراء التيارات الموسمية، أو الغازات والمركبات الكيميائية الناتجة عن التصدع مما يسبب الموت المحقق لأعداد كبيرة منها ..
وكما أن الحكايات الشعبية والأساطير المرتبطة بالكائنات صور ذهنية لا تفارق العامة وتتناقلها مجالسهم جيلا بعد جيل وتظل منطقهم في التفسير والإدعاء وتعلو حقائق العلم مهما حاول المختصون وبذلوا من مساعي ..فكذلك الحال فيما يعتقده الناس من تأثيرات الأعشاب والمستخلصات الطبيعية على صحتهم وحياتهم فهم في سكرات المبالغة أسرى ولا حيلة في إقناعهم أن لكل شىء مضار إن تجاوز حده ..وأن التعامل مع هذه المنتجات الطبيعية بعيدا عن منصة العلم ومنطق الطب هو واجهة للأمراض المختلفة جراء أعراضها الجانبية ..لا واحة ظليلة من الفوائد التي لا تعد ولا تنفذ كما يعتقد عامة الناس..
في الماضي القريب كانت مسألة انخفاض نسبة الإصابة بأمراض القلب والشرايين لدى سكان "الإسكيمو" بالقطب الشمالي مثار حيرة ودهشة العلماء ..ذلك أن نظامهم الغذائي الغني بالدهون طلبا للدفء لا يوحي بذلك ..لكن في عام 1970م سافر باحثان دانماركيان هما " دايربيرج و بانج "إلى "غرينلاند" لتقصي الحقيقة فتكشف لهما عبر التحاليل التي أجريت على السكان وجود معدلات مرتفعة من الأوميجا -3 (مصادره : يتوافر في زيت السمك كالسلمون بالمحيطات دون المزارع والماكريل والسردين والتونة والمحاريات بنوعين هما حمضي دوكوساهيكسانويك DHA والإيكوسابنتينويك EPA -يتواجد أيضا في الزيوت النباتية الطبيعية كزيت بذور الكتان وزيت فول الصويا بنوع هو حمض ألفا اللينولينيك-المكسرات كاللوز والجوز والكاجو - البذور كالشيا - البقوليات كالفاصوليا والعدس والحمص - حليب الثدي لذلك يضاف للحليب الصناعي للمواليد-السمك المشوي والمخبوز وليس المقلي ) ومن هنا بدأ الربط بين أحماض أوميجا الدهنية غير المشبعة في زيت السمك كمكملات غذائية وصحة القلب..
بلورة هذه العلاقة في إطار تسويقي وترويجي متسارع كان مسار للكثير من شركات الدواء والمكملات الغذائية التي راحت تتبارى خلال السنوات السابقة في تقديم زيت السمك بتركيزات عدة وبأشكال مختلفة وبأسعار تنافسية في الغلو والارتفاع ..
هذا يدفع لتساؤل ما نصيب هذا كله من الصحة في ضوء الأبحاث العلمية الأخيرة...
بحسب موقع "مايو كلينك "فمكملات زيت السمك ذات أثر محدود وربما منعدم على صحة القلب أي لا تحمل فائدة وقائية للأشخاص الذين يتزايد لديهم خطر الإصابة بالأمراض القلبية ( يشبه تماما الاتجاهات الحديثة في عدم فائدة تعاطي الأسبرين يوميا بشكل روتيني فوق سن الأربعين للوقاية الأولية من النوبات القلبية والسكتات الدماغية -كما كان في الماضي- ذلك أن مضاره في إحداث النزيف وقرحة المعدة أدهى وأمر ) كما أنه لا يؤدي سوى لانخفاض بسيط لدى المصابين بضغط الدم المعتدل إلى الشديد..وعلى الرغم من دور زيت السمك في خفض مستويات الدهون الثلاثية بشكل ملحوظ مما يقي من تصلب الشرايين ( 3-4 غرام زيت سمك يوميا تقلل الدهون الثلاثية 30%) إلا أن تأثيره على خفض مستوى الكوليسترول يبدو محدودا حيث يبدي تأثيرا متعاكسا ففي الوقت الذي يحسن بشكل طفيف من الكوليسترول النافع HDL فهو يزيد أيضا من الكوليسترول الضار LDL ..
من فوائد زيت السمك ومحتواه من الأوميجا 3 -وهو خيار آمن على كل حال لخلوه من الزئبق - أنه يقلل من الولادة المبكرة (جرعة 2.7 غرام يوميا بحسب ويب طب) كما يحد من الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة كما يحافظ على الحيوانات المنوية في صحة جيدة وهو ما يجعله خيارا مفضلا لدى أطباء النساء والولادة ..تستحسن بعض الدراسات من دور مكملات زيت السمك في تخفيف آلام مرضى التهاب المفاصل الروماتويدي حتى وإن بدا الفعل طفيفيا ..هذا الدور المحمود مع التهاب المفاصل له ما يشبهه في حالات الالتهابات الجلدية حيث تظهر الدراسات الحديثة تأثيرا ملموسا لأحماض الأوميجا 3 في العناية بصحة البشرة ووقاية خلاياها من أضرار أشعة الشمس والتصبغات ( مثل ماسك الأفوكادو الغني بالأوميجا 3) وتخفيف حدة الأكزيما والحكة علاوة على علاج حب الشباب ( البثور) شريطة أن يتزامن ذلك مع نظام غذائي( حمية ) من الخضروات والفاكهة ..
للأوميجا 3 دور فعال في الحد من تدهور القدرات الذهنية والمعرفية لدى الأطفال وكذلك لدى مرضى الزهايمر ومع التقدم في العمر ..الطريف أن نجاح الأوميجا 3 في هذا الغرض كان ملهما للعلماء لمعرفة آلية تسللها ووصولها للدماغ والاستفادة من ذلك في تطوير نماذج دوائية مماثلة .. ففي دراسة بجامعة كولومبيا عام 2021م أمكن التوصل لبروتين ناقل يطلق عليه (MFSD2A) يعد بوابة لأحماض "أوميغا 3" الدهنية لدخول الدماغ،وهو ما يمكن عبر مضاهاة هذه الآلية في تصميم بعض الأدوية التي تستطيع الدخول إلى الدماغ بنفس الطريقة ومن ثم علاج الكثير من الأمراض العصبية.
فيما يخص الجرعة الآمنة.. فالحد الأقصى بحسب إدارة الغذاء والدواء الأمريكية FDA ينبغي ألا يتجاوز 3 جرامًا من كبسولات أوميجا 3 على مدار اليوم فيما يرتفع هذا الحد لدى هيئة سلامة الأغذية الأوروبية، ليبلغ 5 جرامًا يوميًا..
مما ينسب إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : "لا تدمنوا أكل السمك ؛فإنه يذيب الجسد " والحقيقة أن المقولة تصب في خانة وجوب الاعتدال فمن النادر أن تجد من يعانون مشكلات صحية بسبب نقص الأوميجا 3 والتي لن تزيد عن الحكة في أسوء حالاتها لكن في المقابل كثيرا ما تصادفني كممارس صحي الأعراض المنبثقة من الإسراف في استخدامه وأكثرها خطورة النزيف وخطر التعرض للسكتة الدماغية لذلك ينصح بتجنب استخدامه مع عشبة الجنكة ومضادات التجلط والأدوية المضادة للصفيحات كما يمكن أن يقلل من مستويات فيتامين E بخصائصه المضادة للأكسدة ( مصادره : زيت جنين القمح - زيت الزيتون -زيت عباد الشمس- زيت الذرة -اللوز -زيت الكانولا -الفول السوداني -الخضروات كالسبانخ والبروكلي والخس واللفت والبقدونس) علاوة على أعراض أخرى مثل رائحة الفم الكريهة والغثيان والإسهال والطفح الجلدي وعسر الهضم والانتفاخ والحموضة...
د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث وروائي مصري