بعد انتهاء ماساة ما يسمى بحرب الخليج الأولى تم سوقنا الى محارق الكويت عام 1990 .. ثم عدنا الى الحياة المدنية فوجدنا انفسنا بلا ماوى ولا عمل ولا ذخيرة .. فاضطررت دخول سوق الشورجة منتصف عام 1991 بحثا عن عمل وقد ساقتني المصادفة الى محل تجاري يجلس به رجل تجاوز عقده السابع طويل القامة ابيض الشعر جذبتني هيبته وتواضعه .. سلمت سائلا غنه فقال انه الفيلسوف طه عبد هارف العزاوي .. تعارفنا وانضممت لمجموعة أصدقائه برغم التخوفات والمحاذير الأمنية السائدة آنذاك الا اننا كنا نجتمع ونخوض بكل ما يتعلق بالإنسان عدا السياسة .. ما زلت أتذكر بعضهم ( الشاعر عبود الخزرجي وثائر الصميدي ... وآخرين من الجمعية الفلسفية العراقية التي انتمينا لها لاحقا وقد استفدت كثيرا مما سمعته من مصطلحات وشروحات واسئلة كبرى ساهمت بتفتق جدار الوعي وكسر الجمود ومنحي قدرة التفكير بما صنع لاحقا ذاتي ومحتوياتي ) .
طه العزاوي (أبو سرمد) كان فيلسوفا مستغرقا كل وقته يفكر بالكون والانسان .. وضعه المادي جيد جدا متزوج وله ثلاثة أولاد ( سرمد واباء وذرى ) تخرجوا جميعا من الجامعات .. ظل طوال معرفتي به غزير الدمعة متواضع بسيط جدا .. ابي النفس وعزيزها .. لم اره يوما يستغل او يضحك على احد لم يكذب اطلاقا ولم يغش ابدا .. لم ينافق كان صريحا يجهر بكل ما يؤمن بجراة وشجاعة وثقة .. تخلى عن كل الأهداف الدنيوية .. مطاردا هدفا وحيدا سماه الحقيقة المطلقة وخلاص الانسان من كل الشرور ..
آمن بنظريته : ( تامين السعادة والخلود المطلقين ) ظل يدافع عنها ويشرح وجهات نظره مدة ستون عام لم يستطع تثبيتها كنظرية علمية رصينة المتبنيات حتى بعد طبعها في ظل حرية النشر السائدة بعد 2003 مع فخامة الفكرة واسطورية الهدف .
قال : ( انه يؤمن ايمان مطلق بان الشرور ليست من الله وهي جراء قصور الانسان وسيكون العلم المنقذ الوحيد ..) . يعتقد جازما ان العلماء خلال قرنين قادمين لا اكثر سيتمكنون من حل جميع شفر والغاز الكون وستنتهي الشرور الى الابد ونصبح سعداء خالدين في ظل سيادة العلم .
كتب في كتابه النظرية .. خلال عقوده الطويلة انه لم يستطع يصادق ويثق الا عدد قليل من اصدقاء عدني منهم وكتبني باسم ( حسين عباس ) . واصفا اياي بالمؤمن جدا .. اذ كنت احترم آرائه وانموذجيته الأخلاقية .. برغم تقاطعي مع اغلب متبنياته الفلسفية الا ان محبة الوعي جمعتنا تحت شعار الصراحة والانسان وحسن النوايا .
التقيته آخر مرة في بغداد 2007 .. وقد اهداني نسخة من نظريته التي طبعها واخذ يبكي وقد شارف الثمانون من عمره وشعر بالإحباط لعدم فهمه من قبل احد حتى اولاده لم يفهموه – حسب رايه – .. ثم جلسنا في شارع المتنبي الذي طالما زرناه أيام التسعينات لاقتناء الكتب .
بعدها انقطع التواصل بيننا جراء انهماكي بالعمل الصحفي وجلوسه في البيت فضلا عن احتراق مدننا وشوارعنا بالإرهاب والانفجارات والاجندات التي ابعدتنا عن بعض .
اعلمني احد أولاده ان والده سافر مع أخيه ذرى الذي اصبح مديرا لاكبر مشفى في احدى المدن الامريكية وقد اصطحب معه والده . مضيفا انه لم يعد يقوى على الكتابة والقراءة الا ما ندر .. بعد سنوات اتصل بي ولده سرمد معزيا بانتقال روح والده المرحوم الفيلسوف طه العزاوي الى بارئها في أمريكا بعيدا عن وطنه وناسه الذين احبهم طوال عقوده التسعة التي عاشها باحثا مفكرا متفكرا بكل حذافير الكلمة من معنى دون ان يكون في باله هدف وشيء غير الانسان .. بعد ان تجرد عن ملذاته وجميع ما في ذاته من امراض العصر حسب ما كان يذكر ويكرر رحمه الله .