سارع مديرالشركة الإنسان المتواضع الطيّب بإلقاء تحيّة الصباح لحارسه أبي عدنان ببشاشةِ وجهٍ لم تكن مألوفةً من قبل ،وطلب منه أن يجلس أثناء حراسته كي لايُصاب بالإرهاق ولايشعر بألم الرّقبة و الظهر والرِّجلين بعد ثلاثين سنة في وظيفته فقد أصبح كهلاً و يحتاج إلى عناية خاصّة.....
وسمح له بموافقة مكتوبة وموقّعة ومختومة رسميّاً سلّمه إيّاها باحتساء المشروب الذي يدفئ جسده النحيل في الشتاء البارد - من الآن فصاعداً- ويجعله أكثر يقظة وانتباه مع نكهة السعادة وطعم الرّاحة...
وأشار له بلطف بأن يترك محرسه لساعات..
فاليوم أوّل الشهر وحقّه أن يقبض راتبه المُغري وينجز أعماله الخاصّة.....
دخل أبوعدنان المنتشي طرباً من كلمات مديره المشجّعة إلى غرفة المحاسب في دائرته...
وقف لدقائق في الصّفّ المستقيم، فأمامه بضعة من زملائه المبتهجين قد جاؤوا للغرض ذاته......
والهدوء يجثم على المكان ورائحة عبق الزهور المزروعة في مزهريّة على طاولة في الزاوية كانت تلطّف الأجواء مع هبوب نسمات دافئة من المكيّف المعلّق كلوحة على الحائط المطليّ بلون النرجس..
وقد أشار بلطف أحد الموظّفين له وللآخرين بالاستراحة على الأرائك الموزّعة يميناً ويساراً..
وبعد زمن قصير أنقده المحاسب الأمين المبتسم مبلغ سبعين ألفاً ومئة ليرة وهو راتبه الشهريّ...
وضع الراتب في جيبه الكبير الذي انتفخ كالبالون وترك مئة منه للموظف الأنيق الذي تعفّف عن قبولها فهي برأيه ليست من حقّه والله رزقه براتب أكبر....
خرج إلى الشّارع ،استوقف سيّارة أجرة بلون البرتقال وطلب من سائقها المبتسم الوقور أن يوصله إلى المصرف الحكوميّ فعليه أن يدفع قسطَ قرضٍ لشرائه منزلاً فخماً في حارة راقية جديدة في المدينة وعند الوصول قدّم للسائق المكحّل بالإنسانيّة أجرته المدوّنة في التعرفة الملتصقة على الزجاج في مقدمة السيّارة.....
لكنّ السائق الشهم أعاد له نصف المبلغ فالمسافة قريبة والناس لبعضها على حدّ قوله....
اقتحم أبو عدنان بهو المصرف شامخاً مزهوّاً وهو يتّجه إلى الكوّة المخصّصة لتحصيل الأقساط......
استلّ من غمد بنطاله الجديد خمسة آلاف ومئتي ليرة وهو مقدار القسط الواجب دفعه...
لكنّه فوجئ بأنّ الجابي أعاد له ربع المبلغ وشكره على تقيّده بمواعيد الدفع.....
وأعلمه بأنّ قراراً صدر يقرّ إعفاء العاملين بمهنة الحراسة من جميع الفوائد على القروض......
ولم يرض قبول المئة التي تنازل عنها...
ثمّ تابع رحلته منتصب القامة......
والسرور ينهمر من عينيه إلى مصرف خاص كان قد أقرضه مبلغاً لشراء سيّارته الفخمة التي ركنها بجانب بيته...
وكم كانت دهشته بين موظّفات المصرف الحسناوات كالديك بين الدّجاجات عندما علم أنّ قرار إلغاء الفائدة لمن يعمل حارساً شمل المصارف الخاصّة أيضاً....
تابع السير منتشياً بجيبه الذي مازال منتفخاً كالطاووس في شوارع المدينة التي لبست لون الفرح والسّلام...
وراح يبتاع ثيابأ وأشياء وأغراضاً وسلعاً لم يكن باستطاعته في الماضي النظر إلى جلالة قدرها....
فالأسعارمنخفضة ومازال راتبه مقاوماً ......
دخل إلى (ملحمة) فخمة وطلب من صاحبها الوسيم الذي يرتدي لباس الثلج أن يقطع له الفخذ كلّه من الذبيحة...
لكنّه صعق عندما شاهد رجال التموين وكأنّهم فراشات الجنّة يدخلون المكان ويقدّمون شهادة شكر كرتونيّة للجزّار الشّهم تحيّة لنظافته وإخلاصه في تطبيق القانون بحرفيّته...
وهذا مادفع بالأخيرأن يحرّك كلتا يديه بعفويّة وابتهاج...
ولكن سرعان ما سقط ساطوره الحادّ من يده لِيُزرعَ على كتفِ أبي عدنان الذي نهض مذعوراً من نومه وهو جالس على كرسيّ الحراسة المكسور في مدخل الشركة ليجد يدَ مديره المباركة تَلْكُم عظام كتفه النّحيل المُرتجف برعونةٍ....
ورجْلُهُ ترمي بإبريق المتّة وعلبة السكر بجانبه...
وينهال لسانه اللاسع اللادغ بأمطار من الشتائم واللعنات وهو متجهمٌ عابسّ كغيوم كانون الثّاني أثناء العاصفة والإعصار والسّيجار البنيّ يتراقص مزهوّاً بين أصابع يده المُكتنزة.....
وقد أمر معاونه الذي كان يرافقه كظلّه الأسود بأن يقوم بخصم خمسين بالمئة من راتب الحارس أبي عدنان لمدّة ستة أشهر كي يتعلّم الدّرس جيّداً.