نحن «البشر - العامة» من نصنع آلهة من عجوة، نعبدها ثم نأكلها، نحن من نصنع أصنامنا -تماماً كما في الجاهلية- بأفعالنا قبل أقوالنا: لقد نشأنا برغبة لا إرادية في وجود «قائد روحي» سَمِّه خليفة أو إماماً أو داعية، ثم أطلق عليه ما تيسَّر من ألقاب القداسة حتى نُؤلهه «صاحب الفضيلة، أو القداسة، الشيخ، شيخ الطريقة».. ثم هبطنا لنتخلى عن قيمتنا الإنسانية ونسكن في درك «التابع»، وأتقنا تطبيق قاعدة «السمع والطاعة».. هكذا ظهر «حسن الصباح» في التاريخ، والملا والمرشد، هكذا ظهر الإسلام السياسى بالخلط بين دور عالم الدين وقائد الدولة، لقد توحّد وأصبح شبه إله يحكم حياتنا ومصائرنا ويرسم أقدارنا: إنه الكهنوت!
المراد بـ«الكهنوت» أن يكون لرجل الدين «الكاهن» سلطة أعلى من كل السلطات، كما في العصور الوسطى، (التي سُميت العصور المظلمة)، إذ كان «القساوسة» يسيطرون على الحكم، وكانوا يتحكمون في الشعوب والحكومات، بل وفي بعض الحكام أيضاً.. فكلمتهم كانت مسموعة، وأحكامهم كانت نافذة أكثر من نفاذ القوانين، فحكموا، وسيطروا، وطغوا.. ومنحوا أنفسهم «صك الإله»، و«وكلاء الله».. ومنحوا أنفسهم «القداسة» وكأنهم ظل الله على الأرض.
وعلى العكس من ذلك لم يضع الإسلام «الوصاية على البشر» في يد إنسان مثلهم، بل دعا المولى عز وجل إلى تحرير العقل من سلطة الكهنوت.. وحث الناس: (أفلا تعقلون؟ أفلا تتذكرون؟ أفلا تتفكرون؟ أفلا تتدبرون؟ أفلا تبصرون).. وتلك الآيات القرآنية كانت كفيلة بتحرير الإنسان نفسه من أمير الجماعة أو الشيخ أو أي صاحب قداسة.. وأتصور أن فكرة «سلِّم عقلك» قد بدأت مع نشأة الإسلام السياسي الذي اعتمد على سلب الإنسان إرادته وتسليم عقله للقائد أو الأمير يفكر ويقرر نيابة عنه وهو يصبح مجرد «تابع» عليه التنفيذ.
وقد عزز هذا الاتجاه تعدد المذاهب داخل الإسلام، ما فرض وجود «قائد» (سَمِّه ما شئت) للحفاظ على الجماعة.. ويظهر «الكهنوت المتأسلم» بوضوح في الجماعات التكفيرية والإرهابية التى جعلت من أعضائها مجرد آلات تتحرك بالريموت كنترول، تفجر نفسها في الأبرياء.
في مغالطة فجة يقول «عبدالله رشدي»،، إن: (معنى «لا كهنوت في الإسلام» أنه ليست هناك سلطة تمتلك حق سَنِّ القوانين بالمخالفة لقانون الله أو تمتلك الوساطة بين الله وعباده في إقامة الشعائر. أما التطاول على رموز الدين أو الكلام في القضايا الدينية بالمخالفة لكلام الله ورسوله فهو عين الكهنوت والسلطوية القائمة على الجهل والسَّفه).. وهذا هو الكهنوت بعينه، أن تكون كلمة «رجل الدين» أقوى من الدستور والقانون، وأن يكون رجل الدين نفسه فوق الحاكم والشعب ومؤسسات الدولة (إنها عصور ظلام جديدة) يريدون فرضها على البلاد والعباد.
وفكرة «التطاول على رموز الدين» التى يتحدث عنها عبد الله رشدى هى منح «القداسة وكافة صلاحيات الإله» لرجل الدين وخلق نوع إسلامى من الكهنة.. لا يختلف كثيراً عن قادة الجماعات التكفيرية التى تكفر الدول وتفرض وصايتها عليها لتستعبد شعبها وتسرق ثرواته: إنه «كهنوت لصوصى» إذا جاز التعبير.
ورغم الموجات السلفية الجهادية والصوفية التى تتصارع مع بعضها البعض، ورغم المنابر المنتشرة على الإنترنت (موقع أنا سلفي نموذجاً) وملايين الفيديوهات التى تجند البشر للخضوع تحت سلطة «عمامة ما».. لن تستسلم مصر لتأسيس الكهنوت المتأسلم لأنه ببساطة هو نمط «حكم المرشد» الذى ذقنا ويلاته خلال عام من حكم الإخوان وما تلاه من موجات إرهابية.. وربما عبارة «إما نحكمكم أو نقتلكم» تلخص الفكر الكهنوت في الحكم.
أبداً لن يتكرر هذا السيناريو، سوف نظل نحذر منه حتى تسقط مؤامرات تجار الدين، لن نيأس مهما حاولوا تشويهنا أو اغتيالنا معنوياً بآلياتهم الضخمة.. لن نسمح بوجود «ملالى السنة» على أرضنا.. سوف يظل تيار التنوير أقوى رغم أنه الأقل عدداً لأنه يدافع عن «المصير».