من مهام الحكومة الجديدة، كما سمعنا وقرأنا، هو بناء الإنسان المصرى. وأعتقد أن هذا الهدف لا بد أن يأخذ أولوية، ويبدأ العمل على تحقيقه من الآن. فأحوال الإنسان المصرى لم تعد مواتية لخلق دولة مدنية حديثة تنهض بكل المجالات، دون تباطؤ، أو تجاهل.
وما هو الإنسان؟. الإنسان هو عقل، ونمط للتفكير، وبصيرة نافذة تعتمد على المنطق، وقراءة الحياة بشكل موضوعى، واقعى، منفتح.
إن العقل هو أشرف ما نكون، وأعز ما نملك، وأنبل ما نملكه. العقل هو نقطة الارتكاز التى تحمينا من السقوط، والتعثر. وبالتالى فإن مهمة بناء الإنسان تعنى بالضرورة إعادة بناء العقل، واستعادة مواطن قوته، وتوفير سبل الحفاظ عليه.
أقر بكل ثقة بأن "العقل الصحى السليم" ظاهرة استثنائية لا يتمتع بها إلا قلة قليلة من سكان كوكب الأرض. بل هى، إن شئنا الحقيقة والدقة "غير موجودة".
سكان الأرض يتعرضون منذ الولادة وحتى الموت إلى عمليات مخططة، مدروسة بعناية، ومتجددة مع الزمن، "للسطو" الناعم بقفازات حريرية على أجمل، وأغلى، ما يملكونه "العقل".
منذ أن تم إنشاؤها، وتأسيسها، وتطورها عبر الأزمنة، اختلفت المجتمعات فى كل الأشياء، لكنها اتفقت على شىء واحد، أن تتكاثر وتتناسل لتعيد إنتاج المواطنات والمواطنين المنتمين للقيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية "السائدة" المرضى عنها. وبالطبع هذا غير ممكن، إلا إذا تعاونت وتضامنت وتحالفت جميع جبهات المجتمع، مؤسساته، ومنابره، ومنصاته، وقوانينه، وتشريعاته، فى خلق "الحماية" الشاملة المتكاملة، لتلك القيم السائدة.
منذ خروج المولود، أنثى أو ذكر، إلى العالم تتلقفه أول وأهم خيوط الشبكة، وهى الأسرة، لمدة لا تقل عن خمس سنوات، قبل الحضانة والمدرسة، تقع الطفلة أو الطفل أسير التعليمات والنواهى والواجبات والأوامر والقواعد التى تضع اللبنة الأولى فى بنيان أسمنتى هائل، اسمه "الطاعة". وبالطبع ينهزم الطفل الضعيف، المجرد من كل أسلحة الدفاع عن النفس، المعتمد كليا على الأب والأم. وإذا جرب مرة المخاطرة بعدم الطاعة يكون مصيره العقاب بـ"الزعيق" أو الضرب أو الحرمان من أشياء يحبها، وإذا تكررت سوف يوصف بالطفل المشاكس، أو الطفلة المتمردة. وكلنا نعرف فى الإنجليزية تعبير "الخروف الأسود فى العائلة"، ويعنى الفرد غير المنسجم مع بقية الأعضاء، الذى استطاع مقاومة هذا الاحتلال المقنن، والمشروع.
هكذا يتم بنجاح تمهيد التربة لزراعة مَن يُطلقون عليه "المواطن الصالح"، و"المواطنة الصالحة".
هكذا تم "اغتصاب" العقل، و"إخصاء" قدراته، و"ختان" ملكاته، فيصبح مجرد عضو موجود فى أعلى الرأس، فاقدا للحيوية المبدعة، والخصوبة الفكرية، مشابها لملايين العقول.
ومن خلال الشغل المخلص، والنشاط الدءوب من المؤسسات التعليمية، والدينية، بالتنسيق مع المؤسسات الثقافية والترفيهية، والإعلامية، تكتمل جميع حلقات السلسلة الحديدية، التى "تكلبش" ملايين العقول، و"تمتص" خيراتها.
هل يمكننا القول إن الملايين، بل المليارات من البشر، ضحايا السطو على العقول، يتمتعون بالصحة العقلية؟.
رأيى الشخصى أن "تنازل" الإنسان عن عقله، عن سهو أو عن عمد، يضرب جوهريا وبالضرورة الصحة العقلية فى مقتل. ويجعله، بشكل أو بآخر، عاجزا عن التحكم فى تصرفاته وانفعالاته. ويبدو هذا فى السلوكيات المنحرفة فى حالات الانتحار، وفى الجرائم البشعة، وفى ممارسات العنف المبالغ فيها، وفى العدوانية غير المبررة التى تنفجر فجأة فى لحظة.
قالوا لنا إن الصحة النفسية تقاس بالقدرة على العمل، والقدرة على الحب. لكن القضية كما أراها هى الإطار الثقافى والقيمى الذى يتم فيه العمل، أو الحب.
السائد ثقافيا فى الحضارة العالمية المعاصرة أن النجاح فى العمل يعنى "عمل فلوس"، والحب يعنى علاقات عاطفية تتماشى مع الثقافة السائدة، التى تعتمد على تبادل الاحتياجات الجنسية والمالية، واقتسام المناخ غير الصحى، وعلاقات التملك والاستغلال والاستعلاء الذكورى، والعقد النفسية، وتكوين أسرة، وإنجاب أطفال، يطابقون "كتالوج" المواطن الصالح، والمواطنة الصالحة.
كيف لا تختل عقولنا ونحن نعيش فى حضارة تقول لنا كل يوم، منذ استيقاظنا وحتى نومنا، إن إنسانيتنا، ومواهبنا، وأفكارنا، وإبداعاتنا، واختياراتنا، وأحلامنا، من الأفضل إلقاؤها فى القمامة، إذا لم تدر علينا المال الوفير؟.
كيف نحتفظ بنظافة ونقاء وهدوء عقولنا فى حضارة صاخبة، ملوثة بالدم والعنف والإرهاب؟.
كيف لا نُجن ومواصفات الجمال تطردنا، وشروط الجاذبية تنبذنا، وسطوة الفلوس تستعبدنا؟.
نشعر كل يوم بضآلتنا، وتفاهتنا، وضعفنا، وعدم جدوانا، أمام المبانى الشاهقة، والمنتجعات الفاخرة، والشركات العملاقة، وصفقات المليارديات، وطموحات الذكاء الاصطناعى، والتمويلات الخيالية لأنشطة ترسخ التفرقة والعنصرية والقيم الفاسدة، وإعلانات تبيع لنا ما لسنا نحتاجه.
هذه الحضارة على كوكب الأرض "مجنونة" من الجذور وحتى النخاع. وكلنا بالضرورة، بدرجات وأشكال متباينة، يسكننا عطب ما فى عقولنا.
إن بناء الإنسان المصرى، فى هذه الآونة، لا بد أن يرتكز على حماية عقولنا. على الدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها أن تعلن أن "العقل المصرى محمية طبيعية"، تصونها،
وتوفر لها كل أنواع الحماية.
من بستان قصائدى
---------------------
رغم وعورة وعتمة الطريق
إلا أننى
قد انتزعت دور البطولة المطلقة
كل ليلة يقف الجمهور منبهرًا
يمطرنى بعاصفة من التصفيق
لكننى أعترف
أن المسرحية لا تعجبنى
كل ليلة
أصرخ.. أستغيث.. أنزف
بإعجاب يرمقوننى
أنظر إليهم شاردة
زهرة ذابلة بلا رحيق
يجب أن أكمل الدور حتى الانتهاء
كل ليلة يجب أن أنحنى للتحية
وأنا ما اعتدت يومًا على الانحناء
قريبا سوف تتوقف العروض دون إنذار
يوما ما سوف تنطفئ كل المصابيح
ثم سأذهب طى النسيان ويُسدل السِتار