لستُ أدري وأنا في صغري كم كنتُ أشتاق إلى كلّ قديم، ما الذي جعلني أرتد إلى زمن غير زمني، وعادات غير عادات بني جيلي، وإلى كتّاب غير أبناء عصري؟ أهو حدس لاشعوري بأنّ هذا النوع من الكتابة يتناقض مع ميل كثيرين إلى الهروب من الجدية أم انعطاف منهجي طبيعي في الحصول على مادة غنية بكثير من المفردات والأفكار العظيمة والرؤى العميقة؟!
لقد أغواني نثر الزيات والرافعي وكتّاب مجلة "الرسالة الزياتية" وبعدهما البيومي، ووقر في نفسي أنّ هؤلاء هم الكتّاب دون غيرهم، حتى استقرّ في نفسي أن طريقتهم في الإبداع والكتابة هي الطريقة المثلى، فشرعت أدرس ما كتبوه، وأنشغل بكتاباتهم عن كلّ مباهج الحياة.
إنّه نثر متجدد لا ينتمي لحقبة زمنية دون غيرها، وجدتني أكتب ما تستهويه نفسي من ألفاظ وأساليب في دفتر خاص أراجعها، ولو قدّر لي أن أمتلك زمام الوقت مرة أخرى لتناولت نثر "الرسالة الزياتية" بالدراسة الدقيقة، ومهما أعجبت بإشراق أساليب بعض المعاصرين في كتاباتهم لا بدّ أن يشرد انتباهك عنهم وتعلقك بهم بعد فترة؛ لأنها كتابات لا تحفز الخيال ولا تثير الانفعال ولا تبعث على السلام النفسي، فلم يأت بعد جيل الرواد مَن تشعر في كتابته بالشاعرية التي تستشعرها من هؤلاء الصفوة.
وعلى أية حال فإني أحاول في كتابتي أن أسبغ عليها طابعاً ما، ربما لم يبد واضح السمة بعد، وأقر هنا أن النهج الذي رغبت فيه قد يكون مستهجناً في تلك الأيام من كثيرين، ولا يساورني الشك في أني فقدت الأمل في الشعور بالمتعة عند قراءة أعمال بعض المعاصرين التي تعج بكثير من الهنات والأغلاط.
إنّ الذين لا يحسون ما في كتب الروّاد من أهمية هم الذين لم يذوقوا متعة الكتابة، ولا عرفوا ما الوقوف على سحر البيان! هذا العصر ترك الكتّاب فيه الفصاحة وعمق الغور إلى السطحية!
كنت أقضي كل ساعات الفراغ في مطالعة مجلة "الرسالة" التي تمتلئ بكثير من المعارف الثمينة، وبفضلها بدأت أمارس الكتابة، فكنت كلما فرغت من قراءة عدد لخصت ما فيه بأسلوبي، وإذا استولى عليّ الملل من تلك القراءة الجادة أعمد إلى كتاب من كتب الأستاذ أحمد خالد توفيق أو رضوى عاشور أتصفح أبرز ما فيه سريعاً.
كان أدب الرافعي يجد في نفسي صدى قوياً رغم صعوبته وانتقائه لألفاظ غريبة، كنت أقرأ مقالات زكي مبارك وطه حسين وعبد القادر المازني ومحمد حسين هيكل ولكن انصب إعجابي منذ اللحظة الأولى على الرافعي ثم الزيات إلى أن اتصلت بأستاذي محمد رجب البيومي فكان ثالث العظماء الذين اعتنيت بتراثهم، ووجدت في أستاذي البيومي ما ليس عندهما من الكتابة التاريخية الأدبية بعمق واستنطاق للعبر.
ومهما غالبت نفسي على قراءة إنتاج بعض المعاصرين فإن شعوراً بالنفور يزداد ويتمكن من نفسي مما يجعلني أعرض عن شراء كثير من تلك الكتب المعاصرة مكتفياً بما حصلته من كتب أدباء القرن الماضي، فأشد القراءات: قراءة نفس لا تعرفها! على أن هذا لم يمنعني من تصفح سريع لكتب بعينها وصفت من قبل بعض المختصين بجودة عملها، واختيار بعض الفرائد أو الأفكار المهمة منها وكتابتها في دفتر خصص لذلك.
وطالما توقف قلمي في يدي عن كتابة أي شيء، فأفتش عن السبب، فإذا أنا قد أغفلت وردي في القراءة لأدباء القرن الماضي إلى أن توصلت لحقيقة مؤكدة تكاد لا تغيب عني، وهي أنه يجب التدبر في القراءة أولًا قبل تناول القلم، فالكتابة المثمرة لا بد أن تسبق بقراءة عميقة!
ومن الحق أن يقال: إن سبب انحطاط صناعة الكتابة في عصرنا راجع إلى ترك الاهتمام بمنجزات الأدباء الكبار، إذ غالب الكتب الحديثة تزول معها ملكة التعبير، لا يهتدى فيها إلى أسلوب مشرق، ولا ترتبط الأفكار برابطة، وتمحو المعاني الراقية من ذهن المتأدب مع مرور الوقت بسببها.
قد جربت منذ نشأت على أن أدون في دفتر أهم ما في الكتب العتيقة، بحيث يمكن الرجوع إليها، وقلّما دونت فائدة لم أستفد منها يوماً ما، فقد أكتب سطراً واحداً أستفيد منه بعد أكثر من عشر سنوات في كتابة مقال، ذلك أني أعتقد أن الكلمة تأتي بالكلمة، والفكرة تنمو بالفكرة، والفكرة جملة، والجملة تساعد على كتابة أسطر، والمقال ما هو إلا أسطر تطول أو تقصر، فالمقال إذن كلمة حافظتُ عليها أو اعتنيت بها.