حادِثـــة ســير .. قصّـــــــــة: مراد ناجح عزيز

حادِثـــة ســير .. قصّـــــــــة: مراد ناجح عزيز
حادِثـــة ســير .. قصّـــــــــة: مراد ناجح عزيز
 
سنوات ..
من الغربة خارج البلاد, جعلت منه شخصًا آخر غير الذي يعرفه, تناثر الشيب ليملأ مساحات كبيرة من رأسه, اعتلّت عيناه وأصابها ضعف شديد, نتيجة لعمله داخل احد مصانع البناء, أمطرته الأحزان بوابل من الألم, مكتوف الأيدي, لا يقوى على الصد أو المواجهة, رحلت أمه دون أن يودعها نظرة أخيرة, ودون أن يأنس بلذّة الوقت إلى جوارها, وشدو أنفاسها, كأنها عصافير تغرد خارج النافذة, تزوجت حبيبة أحلامه, مستسلمًا لعجزه, رغم صراعه الدائم مع الظروف .
استقل سيّارته, أدار جهاز التسجيل, فقط من أجل إستكانة مشاعره, تسابقه إلتفاتة عيناه يمينًا ويسارًا, تفتّش بين زحام الوجوه عنها, كأسير عشق من النظرة الأولى, يهيم كالأطفال في حدائق عينيها, تتأمله نجمًا هبط من السّماء, يختال كمن يمشي على أطراف أصابعه, رائتحة تترنح أُنوف في محيطها اشتياقًا, أقمشة بنكهة حفلات الزواج الفاخرة, ساعة يد يتوقف الوقت لقراءة بعض تفاصيلها, تلمع عيناها بدموع, فترتمي بين ضلوعه نادمة, بينما هو غير مُكترِث وغير مبالٍ بثورة اشتياقها, ينفس دخان سيجارته التي تبدو بين شفتيه, كمن يجلس منفردًا في بهو قصر منيف, يلتف حوله مساكن العشوائيات والطوب اللبن, يتصاعد دخانها سحب بيضاء, يلقي بها بحركة بهلوانيّة من بين أصابعه, ثم يمضي ويتركها .
لم يعد هناك مجال لرؤية فضاء رحب, يطالع من خلاله رحلة الطيور شرقًا وغربًا, رائحة الخبز البلدي, هبّات هواء الصباح الندي, يلامس انكماش القلب, فيجعله خفيفًا يسابق الطير, أرهقه الدوران داخل المدينة التي صارت كحجرة ضيقة, تشققت جدرانها, بهتت ألوانها, انحسرت سماؤها في عين طفل, أراد أن يناطح السحاب بطائرته الورقيّة, فنام مجهدًا دون أمل .
نَفَرت عروق يديه, تحْتك أقدامه بالأرض حيث مشى, قلقًا, أشعل سيجارة ثم أخرى, بينما هو جالس على أحد المقاهي يتابع حركة المارة في الشارع,( قهوة وكوباية ميّه من فضلك ) يا .. نعم هو, لم يتغير بعد, فقط تجويف يملأ وجنتيه, شاربه الكثيف بدا وكأنه هلال أبيض, تعمّد أن يناديه بصفة لا يعرفها أحد دون غيره, التفت إليه النادل في دهشة, كمن كشف الستار عن سر خفي, مازال لم يتحقق منه بعد, توارت عيناه بعيدًا تبحث في دفترها القديم, دق جبهة رأسه بقبضة يده, معاتبًا ضعف ذاكرته وهو يقول: يااااه ( سعيد القصّاص) كانت هذه الصّفه تلازمه طوال خدمته العسكرية, أوقات فراغ بعض الجنود, كانت وسيلة للاستمتاع بلعب الكرة, ونظرًا لأنه كان نحيفًا ولا يقوى على مجاراة احدهم في المراوغة, يقوم سعيد بشنكلته بمقص, دقائق معدودة كانت كفيلة بسرد بعض الذكريات والحديث عن الغُربة والسّفر, الزواج, الأبناء, الأصدقاء, قَصُر حديثهم, بعض نداءات الزبائن جعلت من اللقاء حادِثة سير لغرباء, لم تترك لمشاعرهم سببًا للعودة .
دقائق معدودة, تسرّب طيفها إليه, تأمّلها بين السطور, ترتّب أوراق مكتبه, ملابسه, تغازله بأغنيات يحبّها, توقّفت الموسيقى, في محاولة لخلق مناخ أفضل, حاول كثيرًا, لكنّه أبدًا ظلّ طيفها يراوده, فأصبح هشًّا كجسد إسفنجي لا عظام فيه, بينما ظلّت عيناه كسماوات انفتحت ضروعها بالدموع .