وفي المجال الشعري أنتج عباس محمود العقاد عشرة دواوين، وأسس – مدرسة شعرية مصرية عربية - مع كل من الشاعرين إبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري مدرسة الديوان التي كانت حركة تجديدية في الشعر العربي في النصف الأول من القرن العشرين. وكان سبب تسميتها بهذا الاسم كتابا ألفه العقاد والمازني وضعا فيه مبادئ مدرستهم واسمه "الديوان في الأدب والنقد". حُددت أهداف المدرسة كما يقول العقاد في الديوان: «وأوجز ما نصف به عملنا إن أفلحنا فيه أنه إقامة حد بين عهدين لم يبق ما يسوغ اتصالهما والاختلاط بينهما، وأقرب ما نميز به مذهبنا أنه مذهب إنساني مصري عربي».
وهذا ما أكده الدكتور طه حسين في الكلمة التي ألقاها في حفل تكريم عملاق الفكر العربي عباس محمود العقاد الذي أقيم في حديقة الأزبكية في إبريل من العام الرابع والثلاثين من القرن العشرين حينما قال: « تسألونني لماذا أومن بالعقاد في الشعر الحديث وأومن به وحده، وجوابي يسير جدا، لأنني أجد عند العقاد مالا أجده عند غيره من الشعراء... لأني حين أسمع شعر العقاد أو حين أخلوا إلى شعر العقاد فإنما أسمع نفسي وأخلو إلى نفسي. وحين اسمع شعر العقاد إنما اسمع الحياة المصرية الحديثة وأتبين المستقبل الرائع للأدب العربي الحديث ».
ثم أشاد طه حسين بقصائد العقاد ولا سيما قصيدة ترجمة شيطان التي يقول إنه لم يقرأ مثلها لشاعر في أوروبا القديمة وأوروبا الحديثة [بحاجة لمصدر]. ثم قال طه حسين في نهاية خطابه: « ضعوا لواء الشعر في يد العقاد وقولوا للأدباء والشعراء أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء فقد رفعه لكم صاحبه ».
إن نموذج الكاتب والمفكر الكبير عباس محمود العقاد به من الخصائص والميزات والقدرة على التحدي ما يجعله ممن يشكلون قمة هرم من امتلكوا الإصرار وحازوا العزيمة، وأن ما حققه الكاتب والمفكر الكبير يضعه في الطبقة الأولى من طبقات الفكر والإبداع، وأن تلك المجالات المتنوعة التي أسهم فيها المفكر الكبير بسهم معتبر تجعله مرجعا استثنائيا لكل من يبحث أصل فكرة، وكل من يسعى للنهل من منهل عذب للفكر عميق، والإبداع المتنوع، ولذلك ولغيره الكثير يظل عباس العقاد مضرب مثل لا يمكن أن يتم تجاوزه في كافة العصور، يُرْسَم منه طريق التفوق، وينحت منه عناوين المثابرة.
طافت شهرة الكاتب والمفكر والأديب الكبير عباس محمود العقاد الآفاق، وتعرف على اسمه الجميع، وتوقف عنده من يستطيع أن يهضم ما أنتجه، وخضع إنتاجه للكثير من البحث، والعديد من التناول، وتضمنت الأبحاث الأدبية والفكرية والفلسفية الكثير من آرائه، وغدا مضرب مثل في عصره وحتى الآن، فكان له الأثر العظيم في نفوس الناشئة، وأصبح على ألسنة الكثيرين - ليس فقط من تعرفوا عليه معرفة فكرية وثقافية - بل هؤلاء الذين لم يقرؤوا له شيئا، ولم يمسكوا له كتابا، ولم يعرفوا له فكرة.
إن هناك أثرا إيجابيا هائلا في قصة عملاق الفكر العربي عباس محمود العقاد - فضلا عن إنتاجه الغزير بالطبع - فكان مثلا يتخذه العديد ممن فاتهم قطار التعليم، ويتجهون للتعلم من خلال القراءة الواسعة متخذين من العملاق نبراسا، وخطى الكثير في تلك الطريق خطوات كبيرة، فأسدى عباس العقاد للمجتمع المصري والعربي - فوق عطاءاته الإبداعية - نعمة كبيرة تتمثل في سعي هؤلاء لتثقيف أنفسهم ثقافة كبيرة، وهذا الذي يمكن أن نراه في عديد النماذج التي تعيش بيننا، والتي تحوز إعجاب المثقفين حقا.
تظل حرفة الكتابة - إن جاز التعبير وأظنه جائزا - ذات خصوصية فريدة - حيث أن لها أدوات لابد من امتلاكها أولا، ذلك الامتلاك الذي لا يأتي إلا من خلال الدرس والتعلم - فضلا عن الموهبة التي يمكن الاستغناء عنها في بعض موضوعات الكتابة، والتي هي أساسية في كل "فنون" الكتابة، والتي هي وحدها غير كافية، مهما بلغت من قوة، فما أكثر المواهب التي قُتِلت قتلا، وما أكثر المواهب التي طُمِست طمسا، لأنها لم تسر في طريق التعلم والصقل، فلم نسمع عنها، ولم تر من النور شعاعا.
وتظل الكتابة – لما لها من بريق – حلما يراود الكثير من الناس؛ من يمتلك أدواتها، ومن ليست لديه القدرة، فيتخذ الجادون منهم الطريق الصحيحة، وهي طريق شاقة، متخذين عباس محمود العقاد نبراسا هاديا لهم، ومنهم – هؤلاء الذين لا يملكون العزيمة – من يخوض في لجج بحر الكتابة العاتية دون مجداف ولا شراع، ليقدموا مجموعة من الكلمات المتراصة، والتي لا يجمع بينها رابط، ولا تعطي مع بعضها معنى، ولا نعرف لها لغة صحيحة، ولا ندرك لها مقصدا، وينسبون ذلك كله للكتابة، وهو ليس منها في شيء، وليس فيه ما يشبه من فن الكتابة إلا الحبر والورق.
وهؤلاء – لأنهم لا يعرفون حقيقة الأشياء، وأصول ما خاضوا فيه – يقحمون، دون وعي، اسم الكاتب الكبير عملاق الفكر العربي عباس محمود العقاد في قضيتهم، حينما يتم مواجهتهم بأنهم لم يحصلوا على التعليم الكافي ليمسكوا بالقلم ليمنحونا أفكارهم!، والتي غالبا تكون مشوهة، نحتاج فيها لبذل مجهود لتصحيح الأخطاء، والوصول لمعنى مستقيم لتلك الكلمات المرصوصة، أكبر من ذلك الذي نحتاجه لفهم واستيعاب فكر عميق مثل فكر الأستاذ العقاد.
يقحمون اسم الكاتب الكبير في مسلكهم الخاطئ، حينما يردون على من يطالبهم باستكمال تعليمهم قبل أن يتحفونا بما " يشخبطون" بأن الأستاذ العقاد لم يحصل إلا على الابتدائية، في محاولة مستميتة للإفلات من التعليم الذي هو أساس تكوين الشخصية، فضلا عن الفكر والثقافة والرؤى، وكأني بالأستاذ العقاد في جدثه يعاني، وفي قبره يتلظى، وكأني به متوسلًا لهؤلاء أن يكفوا عن هذا العبث، وأن يرحموا روحه المعذبة، وأن يدعوا رحلة كفاحه في تحقيق الذات، وإعلاء الفكر، وإنصاف الثقافة، وتكوين العقل، في حالها.
في الآونة الأخيرة، نظرا للكثير من العوامل، يأتي على رأسها سهولة النشر، وانتشار العديد من وسائله، احتل الصنف الأخير – الذي اتخذ من العقاد مثالا لفظيا دون أن يبذل قليل مجهود في التعلم – مساحات واسعة في هذه الوسائل، والتي يهددون من خلالها المجتمع تهديدا كبيرا، بما يملؤونها بانحطاط الفكر وغث الأسلوب وركيك اللغة، ليمثل اسم العملاق عباس العقاد نقمة في فم هؤلاء.
إن هذا الصنف لم يقرأ شيئا للعملاق الكبير، ولم يعرفوا منه غير اسمه، ومن حياته إلا كونه لم يتم من المراحل التعليمية إلا المرحلة الابتدائية، ولم يتعرفوا على أسباب ذلك تلك الأسباب التي هي منعدمة في عصر ما بعد العقاد، حينما أرسى عميد الأدب العربي مقولته الشهيرة لتصبح حقيقة: التعليم كالماء والهواء، حق لكل مواطن مصري.