تتسم قصة "وسم" بالشعرية المفرطة، وليس في ذلك مأخذ؛ لأن أسلوب الهدار لا يجنح إلى نقل الحدث بل بنائه و تحديد عناصره الفاعلة في بناء القصة عبر متوالية الأفعال الراصدة للأحداث واستمررها.
قصة "وسم" قصيدة شعرية جمعت بين عناصر القصة والشعر معا، الشعور باللذة والمتعة ناجم من غموض الموضوع ورمزيته الشفيفة، وعبر لغة منسجمة تماما مع الموضوع الأنثوي المذكور بحرفية خاصة، جعل من القاصة شاعرة تعتمد لغة الأفعال بدقة متناهية،
واعتمادها على الأسلوب الكنائي الذي تردد في ثنيايا القصة، ولذا نلهث وراء البداية القوية للقصة، فإذا ما بدأنا القراءة لا نتركها لحظة واحدة حتى نفرغ من الانتهاء منها، فهي بداية جاذبة جدا للقارئ، وتجعل منه قارئا ضمنيا يبذل جهدا محببا أثناء القراءة، فتأمل معي قوة البداية وجسارتها:"شعرت باضطراب غير مسبوق حولي، وكأن محيطي قد ضاق بي، يريد أن يقذفني خارجه، يطردني بعيدا .هناك ما يطبق عليّ في ظلمتي، يدفعني نحو نفق ضيق، ينحشر رأسي ، أختنق، يستمر، دفعة أخيرة من الوراء، أو ربما كانت ركلة من الخلف، حتى وجدتني أعبر النفق، وأنزلق على سطح صلب بارد، وضوء ساطع يضرب عيني، أدركت أني الآن خارجا، لكن خارجا من أين؟ لم أدر، وإلى أين؟ لا أعلم !.
أحسست بمن يقترب من وسطي، وكأنه قطع كل ما كان يربطني بعالمي الأول هل كان يحررني من قيدي، ويطلقني من حبس ي ؟ "
وهذه البداية اللاهثة تشي بمضمون القصة، ترمز ولا تفصح، تخفي ولا تظهر، تذهب بك وترجع إلى مكانك، تجول بخاطرك أفكار شتى، فالشخصية التي تريد الحديث عنها ربما لا تتأتى لخاطرك بسهولة، فهي غامضة، غير متوقعة، تظهر لك من خلال بعض العبارات ثم تختفي، فالظلمة التي تعيش فيها الشخصية غير المحددة، اسما ولا صفة، تريد أن تخرج من عتمتها، ( يدفعني نحو نفق ضيق، ينحشر رأسي ، أختنق، يستمر) فأنت أمام مولود يعيش في رحم أمه، وتصور القاصة لحظة فارقة في مسيرة حياته، لحظة يصعب معها حتى التفكير، أو النطق بالمصير المجهول.
وهنا يقفز إلى الذهن دور الضمير المراوغ، فضمير المتكلم الذي اختارته القاصة من أشد الضمائر تعبيرا عن الذات، وهو أشد مراوغة عندما تتلاعب القاصة بنا وبعقولنا، فتجعل من الوليد متحدثا يروي التفاصيل، شديدة الخصوصية. ضمير المتكلم يجعلك غارقا في التصور والتخيل، التصديق وغير التصديق، القرب والبعد، التعاطف والشفقة أم السخط والحنق.
تستمر القاصة في تقريب المغزى، وتذكر صراحة لفظة (الحبل) في إشارة دالة على الحبل السري، الذي يربط الجنين بعالم الظلمة القابع فيه، وعالم المجهول المنتقل إليه رغما عنه. فهي كلمة منتقاة بعناية شديدة؛ إذ تقترب اللغة في القصة القصيرة جدا من الشعرية، معتمدة في ذلك على تصوير دقيق، وقوة في التحكم بها، من إبداع للمعاني، واستعمال الانزياحات اللغوية. ليتماهي الشكل مع المضمون في القصة ويخلقان معا لغة خاصة جدا، لا هي بالشعر وحده، ولا هي بالسرد وحده أيضا بل هي مزيج منهما معا في أن. ولعل هذا ما يجعل القاصة تنتقي عباراتها وكلماتها بدقة وشفافية، مما جعل الوليد ضيفا غير مرغوب فيه، يبحث عن شيء ما، لم تصرح به، بل أشارت، والروح تحتاج إلى حضن دافئ، .. وكلها إشارات دالة لحال الوليد الصغير. ثم تقول بتعبير أكثر صرامة لتحديد المكان ومدى قذارته الظاهرة على سطح القصة: بدأت أشعر بحركة حولي، شيء ما يطوف حولي، يخربش الكيس، ثم يصدر صوتا، ويخربش بقوة أكثر .تزداد الضجة ، أسمع أكثر من صوت، وأكثر حركة، وكأنما اكتشافهم لوجودي أثار لديهم شيئا ما ، مخالب وأسنان تمزق الكيس .
فالمكان هنا آهل بالقطط والكلاب الضالة، وقد ألقت القاصة لغة سردية بامتياز على المكان فجعلت منه مكانا شعريا من حيث الكنايات والاستعارات والوصف الخفي لمكان لا تشعر معه باطمئنان ولا بارتياح.
وينبغي أن نقرر أن الاستفادة من الشعر في بناء لغة القصة يعتمد على الإبهام والغموض، وبالقدرالذي يساهم الاعتماد على الشاعرية في منح النص قوة وترابطاً أكثر، واقتصاداً في المعاني والدخول في تفاصيل تناسب بناء القصة القصيرة جداً.
وبعيدا عن لغة القاصة وتميزها، فإن النهاية جاءت متفقة مع البداية، فالعنوان البارز في القصة"وسم" ارتبط كثيرا بالنهاية المفتوحة للقصة. "لكن العيون التي طوقتني أخيراً وسمتني ب"اللقيط". فجاء الفعل وسم في نهاية القصة مرتبطا بالعنوان، في إشارة من القاصة بتماسك البناء و صلابته.