حسني حنا يكتب : المسارح الرومانية في سوريا

حسني حنا يكتب : المسارح الرومانية في سوريا
حسني حنا يكتب : المسارح الرومانية في سوريا
 
" أدِّ الاكرام للآثار القديمة، والاحترام للأعمال العظيمة، ولا تحقّرنّ الأساطير"
  *Pliny 
 
دخل الرومان الى سوريا سنة (64 ق.م) بقيادة بومبي Pompey الذي أدخلها تحت اسم واحد هو ولاية سوريا provincia Syria وأصبحت عاصمتها مدينة انطاكيا Antioch ومن الواجب أن نذكر هنا، أن الحضارة الرومانية ذاتها، كانت وريثة الحضارة اليونانية القديمة، وعندما جاء القرن الأولى للميلاد كان قد حصل انسجام بين الحضارتين اليونانية والرومانية. وتابعت الثقافة الهللينية تقدمها في سوريا، وزارت غنى أيام الرومان. 
 
 
سوريا في ذروتها
 استعادت سوريا قوتها في القرن الأول من الحكم الامبراطوري، بعد المتاعب التي حصلت فيها نتيجة الحروب في آواخر الحكم السلوقي.
 ووجدت نفسها جزءاً أساسياً من الامبراطورية الرومانية، التي كانت تمتد من المحيط الأطلنطي الى نهر الفرات. وساد النظام والسلم الروماني، وبنى الرومان شبكة واسعة من الطرق. ما زالت بقاياها ماثلة الى اليوم. وانتعشت الحياة الاقتصادية و ساد الازدھار.
 وفي تلك الامبراطورية الواسعة، ارتفعت شعلة الحضارة عالياً واضاءت. وقد تزايد عدد السكان في سوريا في القرن الثاني للميلاد، حتى قارب سبعة ملايين، ويقول المؤرخ بوسيدونيوس ( القرن الأول م) عن ازدهار سوريا في ذلك العصر:" كان جميع سكان سوريا آمنين من أيّ ضيق يتعلّق بضرورات الحياة، بسبب الوفرة الكبيرة التي تقدمها بلادهم".
وفي ظل حكم الرومان وسيادة الأمن والسلام بنيت المقصور والحمامات والمعابد والملاعب الرياضية والمسارح والجسور وقنوات الري والساحات والحدائق العامة. وفي مطلع القرن الأول للميلاد، ولد الذي قسم التاريخ إلى عصرين، وهو السيد المسيح.
 
 
المسارح الرومانية في سوريا
سوف نقتصر فى هذه المقالة على الحديث عن جانب هام من جوانب الحضارة السورية في ظل حكم الرومان وهو أهم المسارح المنتشرة في أماكن عديدة من البلاد السورية.
 
1 -  مسرح جبلة Gabala 
يقع هذا المسرح في مدينة جبلة السورية الساحلية، إلى الجنوب من مدينة اللاذقية. في الجهة الشرقية من المدينة القديمة. ولا يزال وضع هذا المسرح جيداً بشكل عام . وهو موجود في ارض مُسطّحة. مبنياً من الحجر الجيري والحجر الرملي المحلي.
وقد تم تحويله الى حصن في الحقبة اسلامية مثل العديد من المسارح في سوريا. ولهذا المسرح أبواب عديدة، ويتم الدخول إليه من البوابة السابعة عشر الضخمة.
ويأخذ هذا المسرح شكلاً دائرياً، وهو مكون من ثلاث طوابق، ويحتوي على (35) صفاً من المقاعد الحجرية ويستوعب نحو (8000) مشاهد، ويبلغ قطر هذا المسرح نحو (115) متراً. وقد زود بالأقبية والأدراج، والعديد من الممرات التي تسهل التنقل داخله. 
وهو يعتبر من الروائع المعمارية، التي تعود إلى العصر الروماني من تاريخ سوريا.
وفي عام (1950) بدأت المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية بعمل ترميمات للمسرح. وفي عام (1999) قامت بعثة بلجيكية بابحاث أثرية وتحليلية على هذا المسرح.
ويذكر بعض المؤرخين أن الامبراطور الروماني (سبتيموس سفيروس) هو الذي أمر ببناء هذا المسرح بين عامي (193 – 200م) من واقع التفاصيل المعمارية. بينما يذكر آخرون أنه بني في عهد الإمبراطوري البيزنطي جو ستنيان (527 – 565م). وقد أهتم بهذا المسرح العديد من الرحالة وعلماء الآثار مثل هنري موندريل وريتشارد بوكوك وماكس فون برشم. وإدموند فريزول وغيرهم.
 
2 -  مسرح سيروس Cyrrhus
يقع هذا المسرح شمال غرب مدينة حلب، على بعد نحو (70) كيلو متر. وهو يُعدّ ثاني أكبر وأجمل المسارح الرومانية في سوريا بعد مسرح أفاميا. وهو متوضع على منحدر طبيعي، يبلغ قطره (125) متراً. وهو مؤلف من ثلاثة طوابق. لم يحفظ منها إلا الطابق الأول وهو بحالة جيدة. وفي حين بُني الطاباقان العلويان بواسطة جدران ضخمة قائمة بذاتها.
وواجهة المسرح مُزينة بالزخارف المتنوعة، والتيجان المصنوعة من الرخام المستورد والغرانيت المصري، وقد رصفت أرض الأوكسترا فيه بالرخام الأحمر.
سُمّيت هذه المدينة (أجبا بوليس) أي مدينة القديسين (كوزما) و (دميانوس). وقد تم بناء كنيسة حول قبرهما.
ويذكر المؤرخين أن باني هذه المدينة هو الأمبراطور سلوقوس نيكاتور (312 – 380 ق.م) وهو أحد كبار قواد الاسكندر المكدوني.
والمؤرخون العرب كتبوا هذه المدينة (كورش) وكلمة (سيروس) هي التسمية اليونانية لكورش. كما يقال أن الأسم (سيروس) هو نسبة لمدينة سيرهوس Cyrrhus في مكدونيا.
وفي الحقبة اليونانية من تاريخ سوريا، كانت تتمركز فيها قوة عسكرية كبيرة. وفي عام (83 ق.م) سيطر عليها ملك الأرمن ديكران الثاني قبل احتلالها من قبل الرومان.
وفي العهد البيزنطي أصبحت هذه المدينة مدينة مسيحية، فيها عشر كنائس، وأصبحت مركزاً سياسياً ودينياً مسيحياً. وقد ضربها زلزال مدمر في عام (1140) هجرت بعده المدينة، وتحولت إلى أطلال. وقد قام عالم الآثار الفرنسي (هنري سيريغ) مدير المعهد الفرنسي للأثار في لبنان في عام (1952) بالتنقيب فيها لسنوات حيث كشف النقاب عن معالمها الرئيسية. وكان من أبرز المعالم الباقية هو المسرح الروماني الذي توجد على مدرجاته مقاعد حجرية ضخمة، مدون عليها أسماء أشخاص محددين. ويبلغ عدد المدرجات الحجرية (24) صنفاً تتوضع عليها المقاعد الضخمة، كما توجد في هذا المسرح أعمدة وتيجان كورنثية.
 
3 - مسرح أفاميا Apamea
من أكبر وأوسع المسارح في العالم القديم، بعد مسرح بومبى في روما. وهو صرح أعياه الزمان والحروب. يقع ضمن موقع مدينة أفاميا الأثري على نحو (60) كيلومتر. الى الشمال من مدينة حماه، الى الشرق من نهر العاصى. ويبلغ قطر هذا المسرح نحو (140) متر.
هذا المسرح غير محفوظ جيداً، إذ إستخدمت كميات كبيرة من حجارته في بناء المنازل في المناطق المجاورة، مما أدى الى تخريبه ، وفي صناعة (الكلس). ويمتاز هذا المسرح بتقنية الصوت المستخدمة فيه، بحيث كان يمكن سماع كل ما يدور على المنصة، في أية جهة في المسرح. مما جعله مثار دهشة وإعجاب الأخصائيين المعاصرين في التاريخ والآثار.
ولهذا المسرح شكل نصف دائري متمركز مع المدرجات، ويتصل معها بالممرات والأدراج، التي تلتقي عند البهو الأعلى. إضافة إلى درج، يسمح بالوصول إلى مدخل المسرح الجنوبي الضخم.
بدأت اعمال التنقيب في هذا المكان منذ بداية ستينات القرن الماضي، من قبل البعثة الأثرية البلجيكية، وهناك آلیة مشروع كبير لترميم المسرح بالتعاون مع خبراء أمريكيين منذ العام (2009).
 
 
4 -  مسرح تدمر Palmyra 
تقع مدينة تدمر palmyra وسط البادية السورية ، إلى الشمال الشرقي من مدينة دمشق، وقد بنيت كمحطة تجارية للقوافل. وهي تحمل طابع المدن اليونانية  والرومانية. وقد كانت في الماضي من اهم المدن في سوريا وأكثرها ازدهاراً، وكان يمر فيها طريق الحرير Silk Road التاريخي الشهير، الذي كان يربط الصين بالشرق الأوسط وأوروبا.
ويعد مسرح مدينة تدمر من أجمل المباني الأثرية في سوريا بطرازه الفريد، وهو يشتمل على مقاعد حجرية. وتفصل بین مدرجاته ممرات موزعة بشكل شعاعي، ويتميز هذا المسرح بواجهة جميلة محمولة على أعمدة، كما يحتوي على محاريب،غاية في الدقة والجمال،حيث تقام عليها تماثيل لربات الفنون والجمال، ولهذا المسرح ثلاث بوابات، تؤدي الى الصحن.
ويعتقد العلماء أنه بني في النصف الأول من القرن الثاني للميلاد. ويتكون مدرج هذا المسرح من (13) صفاً، يرتفع كل صف 37 سنتيمتر بعرض (60) سنتيمتر، والمسرح مبني على شكل نصف دائرة بالأحجار الكلسية. ويمكن للجالس في أي مكان في هذا المسرح، رؤية ما يدورعلى منصة التمثيل. والأبنية في المسرح متوازية، ومداخله رحبة، مزينة بالزخارف والنقوش الجميلة، وأعمدته رشيقة.
وقد بقيت أطلال هذا المسرح خافية تحت الرمال. حتى ترميمه بين عامي (1950 - 1952)، ووجدت في هذا المسرح اثناء عمليات التنقيب المشار إليها، حاملة تمثال، دلت الكتابة المنقوشة عليها، على أن نقابة الدباغين أقامت تمثالاً في المسرح عام (258 م) لابن الملك أُذينة. كما وجدت في المدينة بقايا عدد من الكنائس و عدد من التماثيل الرائعة... 
 
5 - مسرح بُصرى Bosra 
يضم جنوب سوريا الحالية الكثير من المواقع الأثرية الرومانية والبيزنطية، مثل القصور والمسارح والكنائس والأديرة وغيرها، التي بنيت من حجارة البازلت الصلبة، التي تميزت بها هذه المنطقة ومنها صرح بصرى الذي يبلغ قطره (102) متر. 
ويعتبر مسرح بصرى من أجمل وأكثر المسارح الرومانية اكتمالاً وجاهزية في العالم بشكل عام. وهو لايزال محافظاً على أهم شواهده. ومنها واجهته الجميلة، وهو اليوم موقع متقدم في التراث العالمي لليونسكو. على الرغم من بعض التغيير والتخريب الذي لحق به على مر العصور.
ويحتفظ هذا المسرح بكامل اقسامه تقريباً ومنها منصة التمثيل وجميع تفرعاتها، وبالعديد من أعمدة الرواق والأفاريز من الطرازين الدوري والكورنتي، وفي الجدارين الجانبين حول المنصة شرفات كان يجلس عليها حاكم الولاية وكبار الشخصيات والزوار. ووراء الجدار الغربي للمنصة هناك مساحة مكشوفة تستخدم للاستراحة.
ويجد الزائر للمدرج (37) صفاً من المقاعد المتصلة، ثم ممر تليه خمسة صفوف مخصصة للعامة. ويسع هذا المدرج (15) ألف متفرج، يمكن إفراغهم خلال (15) دقيقة عبر الإدراج الشعاعية، الموزعة في طبقات المسرح والمؤدية إلى الخارج، كما يمتاز بتقنية الصوت، وسماعه في أية نقطة، دون الاستعانة بمكبرات الصوت، واليوم يحتضن هذا المسرح مهرجانات سورية وعالمية، وقد نجا من ويلات الحرب الأخيرة في سوريا. لكن القذائف قد اسقطت بعطر حجارته....
 
هوامش و تعلیقات
- كان ما ذكرناه هو غيض من فيض، حيث البقايا المعمارية والآثار الرومانية والبيزنطية الموجودة في سوريا اليوم. أكثر عدداً من آثار جميع العصور مجتمعة. 
- هناك مسارح رومانية اخرى في سوريا، مثل مسرح شهبا و مسرح درعا ومسرح بانياس لم يتسع المجال للحديث عنها. ومسارح لم يبق فيها حجرعلى حجر مثل مسرح اللاذقية الواقع على السفح الغربي لتلة الطابيات جنوب المدينة.
- إن الكثير من المباني الأثرية في سوريا، العائدة للعصور اليونانية  والرومانية والبيزنطية نالها الإهمال ونالتها يد التخريب من قبل مجاوريها، وباتت مطالع مكشوفة لتقطيع الحجارة من أجل بناء المنازل والحصون والخانات وغيرها، فتبدلت أوضاعها وضاع الكثير من معالمها.