محيي الدين إبراهيم يكتب : بمناسبة ذكراه - محطات في حياة نجيب محفوظ

محيي الدين إبراهيم يكتب : بمناسبة ذكراه - محطات في حياة نجيب محفوظ
محيي الدين إبراهيم يكتب : بمناسبة ذكراه - محطات في حياة نجيب محفوظ

 

لن أتحدث عن نجيب محفوظ حديث يعرفه الناس وإنما سأتحدث عن صفحات من حياته قد يكون لا يعلمها غالب الناس تحدث هو نفسه عنها وتضيف – ربما – عن بعض ما غاب عنا من حياته الشخصية والأدبية.

الأم الأمية كانت المصدر الأول للإلهام:

كل أخوته ولدوا في درب القزازين وهو الوحيد الذي ولد في 8 ميدان بيت القاضي يوم 11 ديسمبر 1911م، ويقول نجيب محفوظ أنه تربى في طفولته بين أمه فاطمة التي ورغم أنها كانت أمية لا تقرأ ولا تكتب إلا أنها كانت مخزناً للثقافة الشعبية حفظ عنها الكثير من الحكايات حتى ماتت عن عمر يناهز المائة عام، أما والده فكان منفتحاً ولا علاقة له بالسيد احمد عبد الواد في الثلاثية وكان يحب الفن والموسيقى ومات عام 1937م قبل ان يقرأ رواية نجيب محفوظ الأولى عبث الأقدار، وكان يتمنى أن أصبح طبيباً أو وكيل نيابة وكنت أتمنى أن أكون لاعب كرة أو ضابط شرطة ولكني خيبت أمله وصرت على ما انا عليه.

 

من نوادر طفولته وشقاوته:

المرة الأولى حينما احتل الإنجليز بيت القاضي ومنعوا اهالي الحي من فتح النوافذ لأنها تهديد محتمل لاطلاق الرصاص عليهم، ولكن نجيب انتهز فرصة أن أمه بالمطبخ وفتح النافذة وظل ينظر للعساكر الإنجليز ويهزأ منهم ويقلدهم وحينها وجد أباه فوق راسة ليضربه ضرباً مبرحاً بمساعدة والدته على قدميه بالخرزانة لأنه عصى امر ابيه وكان من المحتمل أن يطلق الإنجليز عليه الرصاص، أما العلقة الثانية كانت بسبب أنه أقنع الخادمة الصغيرة بأنه سيلعب معها لعبة الطبيب والمريضة وسيجري لها عملية جراحية وبالفعل أخذ ذراعها وبشفرة حلاقة أحدث لها جرحاً فلما شاهدت الفتاة الدم صرخت فهرعت الأم لتجد المشهد فتضربة ضربا شديدا، ويعلق نجيب محفوظ: كنت شقياً.

 

الريحاني الفنان رقم واحد الذي احببته:

حضرت كل مسرحيات الريحاني في الثلاثينيات والأربعينات لقدرته العظيمة في النقد الاجتماعي وربما أتذكر مسرحيته حكم قراقوش التي شاهدتها عشرين مرة لأنها كانت عملاً هائلاً ولا اجد اسبق للريحاني في عصره سوى شارلي شابلن، الذي كنت أواظب على مشاهدة أفلامه منذ أنكان عمري 5 سنوات في سينما الكلوب المصري بميدان الحسين. 

 

علاقتي بمهنة السينما بدأت بصلاح أبو سيف:

قرأ صلاح أبو سيف عبث الأقدار عام 1947م وطلب مقابلتي عن طريق صديق مشترك هو فؤاد نويرة لأعمل معه في كتابة السيناريوهات فرفضت وقتها لعدم درايتي بهذا الفن لكن أقنعني فؤاد نويرة بأن صلاح أبو سيف سيعلمه وسآخذ مبلغا كبيرا استطيع الصرف منه على الأدب وقد كنت لا اتقاضى شئ من الأدب، وبالفعل قابلت صلاح أبو سيف وكان يقوم بتحضير فيلم عنتر وعبله فأعطاني كتب في كتابة السيناريو وعرفني على السيد بدير الذي علمنى في البداية كيفية كتابة السيناريو وكان اول مبلغ تقاضيته 100 جنية وكان مبلغاً عظيماً أشبه بظهور البترول في دول الخليج، وبالرغم من ضيقي لهذا العمل لأني كنت قد تعودت أن أكون كل شئ في العمل حيث أمضي بأحداثي وشخصياتي كما يحلو لي إلا أن حلاوة المكسب المادي جعلتني أتغاضى عن تلك المتاعب خاصة أن كتابة السيناريو لم تكن تعطلني عن كتابة الأدب وبالفعل استغرقني كتابة السيناريو منذ عام 1952م وحتى عام 1957م.

 

تأثره بالكتاب المصريين:

يقول نجيب محفوظ أنه كان تلميذا لطه حسين في الجامعة وأنه تأثر بالعقاد تأثراً كبيراً إذ هو من علم جيله من الأدباء معنى الحرية وكيف يحترم الأديب كرامته بعيداً عن مدح الأعيان طمعاً في عطاياهم كما تاثر بالأديب دستوفيسكي ويراه أديباً لن يتكرر، وأن جائزة نوبل لو كان طه حسين حياً ما أخذها نجيب محفوظ.

 

اعظم جائزة كانت جائزة قوت القلوب الدمرداشية:

كانت هذه السيدة محبة للأدب وهي ابنة الشيخ محمد الدمرداش صاحب مستشفى الدمرداش الحالية، وقد نظمت هذه السيدة مسابقة في فن الرواية عام 1940م كانت جائزتها 40 جنيه وكانت لجنة التحكيم تتكون من طه حسين وأحمد امين وفريد ابو حديد وفزت أنا بالجائزة الأولى مناصفة مع احمد باكثير عن روايتي رادوبيس فأخذت مبلغ عشرون جنيهاً وهو مبلغ لو تعلمون عظيم قربني من أعراض الثراء، ثم بعدها 1943م حصلت على جائزة مجمع اللغة العربية وقدرها 100 جنية كان لها أبلغ الأثر في تحسين وضعي المادي.

 

جائزة نوبل لم أكن اتوقعها:

لم تكن جائزة نوبل من احلام نجيب محفوظ، ولم يتطلع لها يوما من الايام، ويقول محفوظ أن ذلك ربما راجع لأنني من جيل يمتلك عقدة الخواجة وهي العقدة التي احدثت في نفوسنا نوعاً من عدم الثقة بإمكانيتنا، وربما لو كنت اعطيتها اهتما لكان حدث لي حرق دم من متابعتها سنويا، وحتى إعلان الجائزة يوم الخميس 13 أكتوبر 1988م، لم يكن عندي أي توقع للفوز، وبالفعل كان توقعي أن يحصل عليها الاستاذ العقاد الذي كنت أرى أنه يستحقها عن جدارة.

 

تفاصيل يوم الإعلان عن الجائزة:

يقول محفوظ انه حتى يوم الإعلان عن الجائزة يوم 13 أكتوبر 1988م لم يكن عندي أي توقع للفوز وذهبت كعادتي لجريدة الاهرام وجلست مع الأصدقاء والزملاء وتحدثنا في مواضيع مختلفة من ضمنها جائزة نوبل المنتظر إعلانها اليوم، وقلت لهم أننا سنقرا عنها في الاهرام غدا من خلال خبر صغير عنها كالمعتاد ونعرف من فاز بها، وعدت إلى البيت وكانت زوجتي بمفردها ترتدي زي المطبخ وتكاد تنتهي من إعداد الغداء أما ابنتاي فهما في عملهما وبالفعل تناولت الغداء ودخلت غرفة النوم لاستريح ولم تمض دقائق حتى وجدت زوجتي توقظنيمن النوم في لهفة وتقول لي: قوم .. قوم "الأهرام" اتصلوا بيك وبيقولوا إنك أخذت جائزة نوبل!

استيقظت وأنا في شدة الغضب معتبراً كلام زوجتي نوع من الهلوسة وفيما أجادلها بغضب دق جرس التليفون وكان المتحدث جريدة الأهرام تبادرني بالتهنئة فقلت لهم في ماذا قالوا أني فزت بجائزة نوبل فلم اصدقهم لكن وجدت الاستاذ سلامة احمد سلامة مدير تحرير الأهرام يؤكد لي المعلومة ويهنئني ويقول لي شرفتنا فقد جاءت نتيجة نوبل وفزت بجائزة الادب.

حتى هذه اللحظة كنت أظنها مجرد دعابة وأن الأهرام تدبر لي مقلباً باردا ولكن لم تمض سوى دقائق قليلة كنت اجلس فيها في فراشي محتاراً حتى دق جرس الباب ففتحت زوجتي الباب وهي مازالت بملابس المطبخ ودخل رجل طويل ومعه مجموعة من المرافقين فنهضت من فراشي إلى الصالة وأنا بالبيجاما ونظرت للرجل الذي حسبته في الأول صحفيا فإذا به سفير السويد والسيدة حرمه !.

هنأني السفير وقدم لي هدية عبارة عن هدية من الزجاج كالتي تباع في خان الخليلي فاستأذنت منه ودخلت غرفتي وارتديت بدلة لاني أدركت أن المسألة بجد، وبمجرد خروج السفير السويدي تحولت شقتي إلى سوق، صحفيون ومصورون ومهنئون وفرحة غامرة في المكان وأحاديث صحفية سريعة والتليفون لا يكف عن الرنين.

حدث مفاجئ لم اعمل له حساباً وشقة صغيرة غير قادرة على استيعاب هذا العدد الخرافي من المهنئين وزوجتي وحدها وفي غاية الحيرة بالقيام بمفردها بواجب الضيافة.

 

سهرة الحرافيش أهم من نوبل:

رجعت مرة أخرى إلى مكتبي في الأهرام حيث هرع ورائي المهنئين والمصورين ووسط كل هذه الضوضاء تذكرت سهرة الحرافيش فموعدها اليوم الخميس كالمعتاد، فقررت العودة لمنزلي حيث نسيت علبة سجائري فأحصل عليها وأنطلق بعدها إلى الحرافيش ففوجئت بمظاهرة أمام البيت وعدد كبير من الصحفيين وإعلام وتليفزيون فخشيت إن دخلت لا أتمكن من الخروج فقلت للسائق خذني لكازينو قصر النيل، وحينما وصلت وجدت مظاهرة أخرى هناك لم أنج منها إلا بعد عناء استطعت بعد أن أذهب لبيت توفيق صالح حيث جلسة الحرافيش وأمضيت الليل عنده، ثم نزلت مع الصديق عادل كامل وأخذنا نتجول في شوارع القاهرة حتى الثانية صباحا وذهبت للمنزل فوجدت صحفيين أجانب جاؤا خصيصاً لعقد حوار معي وسيغادرون فوراً لبلادهم فجلست معهم وأجبت على جميع أسئلتهم حتى السابعة صباحاً.

 

لولا الأهرام لأصبح الأمر فضيحة أمام العالم:

بعد إعلان الجائزة كانت أعصابي في أسوأ حالاتها بسبب شقتي الصغيرة المتواضعة وهذا الزحام الشديد وعدم قدرة المنزل على استيعاب الزائرين، وهنا قرر ابراهيم نافع رئيس مجلس الإدارة بفتح غرفة توفيق الحكيم كي استقبل الزوار فيها بدلا من بيتي الذي عجز عن استيعاب الطوفان، ولولا قرار ابراهيم نافع لأصبح الأمر فضيحة أمام العالم، وأذكر أن اتصل بي الرئيس حسني مبارك وتفضل باهدائي قلادة النيل بمناسبة هذا الفوز.