استقبلني جدي مهللاً، باسم الثغر قائلاً، عفارم عليك يابطل، لك عندي هدية كبيرة خالص، هتاخدها لما نرجع البيت، قالها الحاج إسماعيل بعد مجيئه مهرولاً من آخر الحقل مسرعاً، لينقذ حفيده" الصغير، القصير المكير، صاحب البدن المستدير" محاولاً الإمساك به خشية أن يسقط فجأة من فوق حمار "عم سيد حمدان" المساعد الأقدم له، بعد أن تمكن الحفيد العنيد من اعتلاء ظهر الحمار وقيادته والسير به بكل ثقة وتؤدة، وتأني وتمكن، وتركيز واقتدار، وكأنه أنتوني كوين في فيلم عمر المختار، أو أحد فرسانه الكبار! كان حقل جدي كبيراً، مترامي الأطراف شاسع المساحة واسعاً، ولم يشعرالرجل المُسن بأي إجهاد يذكر، رغم ما بذله من مجهود في المجيئ من منتصف الحقل إلي مكان تواجدي بالقرب من أحد الحدود! أنسته الفرحة كل تحذيراته السابقة لي بعدم الاقتراب من الحمار المربوط تحت شجرة التوت، أنساه الاهتمام بسلامة الحفيد، كل ما كان يعانيه من خشونة في المفاصل وضيق في الشريان أوالوريد! لم يكتفي الجد بهذا، بل أمر جميع المزارعين، الذين هم له معاونين، بالتصفيق للبطل الجديد، الذي تمكن من" ركوب الحمار" بمفرده ولم يخف أن يرفصه! تذكرت المشهد بكل تفاصيله، رغم مرور ما يربو علي أربعة عقود ونيّف، خلال مراجعتي لبعض مواقع التواصل، وكنت قد منحت نفسي إجازة إختيارية، لأسترح قليلاً منها، وأريح أهلها مني، عملاً بالمثل الذي لا أري أن في العمل به أي فائدة تذكر(شيل ده من ده يرتاح ده عن ده)!
خلال تصفحي للمواقع، شاهدت فيديو لفنان كبير يبارك خلاله لابنته بعد نجاحها في "ركوب" التريند! فقلت في نفسي، ان ما فعله الفنان لم يختلف في شيء عما فعله جدي قبل نصف قرن تقريباً يوم اعتلائي للحمار!
لقد فرح الجد بحفيده صاحب ال ٦ سنوات، الذي استطاع أن يفعل بمفرده، ما لم يتخيل هو أن بإمكانه أن يفعله، فقام بتشجيع من رآه بعين قلبه، بطلاً ولا عنترة ابن شداد، شجاعاً ولا أبو زيد الهلالي سلامة، فارساً ولا بسطام بن قيس، ولم يكن باستطاعة المزارعين"الغلابة" اللي الشمس واكلة دماغهم، سوي الانصياع لرغبة صاحب الأرض، لأنهم أولاً يحبونه، ولأنهم وجدوا فيها فرصة للراحة، وكأنها فسحة أو استراحة "وأظن أن جدي هو الآخر كان في حاجة إلي أن يستريح، فأمعن كثيراً في الإحتفال ليطيل فترة الاستراحة، وكان الرجل معتاداً علي زراعة أرضه بيده، ولم يكن من المكتفين بمباشرة المزارعين!
الله يرحمه ويرحمهم ويرحمنا أجمعين .
أنا بالمناسبة، لم آت علي ذكر الفنان أو ابنته، بهدف توجيه الانتقاد، أو الإشادة، أو الإساءة، أو النيل، أو الإنتقاص، أردت فقط أن أكون أميناً في ذكر الدافع الذي أنعش الذاكرة فاشتعلت، ولما اشتعلت اشتغلت، وذكرتني بأحد مواقف الطفولة، بصرف النظر عن رأيي الشخصي فيما فعلته الست التي ركبت التريند، وموقف والدها منها، أوموقف الناس منهم ! وإن جاز لي أن أقول كلمة في هذا الإطار ابتغاءاً لوجه الله الكريم، فإنني سأقول، أنه هنالك في بلدنا مئات، بل آلاف الأشخاص أحق بأن تسلط عليهم الأضواء من هذا الذي ركب الحمار، أو تلك التي ركبت التريند، هناك علماء ومخترعين، ونماذج لناس مكافحين، تغافلت عنهم المواقع، وتجاهلهم الإعلام، ناهيك عن المثقفين، والناس الفهمانيين، أنا لا أقصد" المتحذلقين" اللي دايماً بييأسوا الناس أو بياعين الكلام، انزلوا يااخواننا للأسواق الشعبية، شوفوا الرجالة الشقيانين، والستات الفضليات اللي فارشين علي الأرص وقاعدين، يبيعوا الجبنة والفاكهة والخضار، الطماطم والبطاطس والبصل، والتوم والجزر والخيار، ورا كل انسان منهم، قصة كفاح تستحق أن نصنع لصاحبها تمثال مش بس نوصله للتريند، الناس دول وغيرهم كتير، أحق من غيرهم بكتير في الظهور والتكريم والإحتفاء والتقدير !
حفظ الله بلدنا، وأعانكم وأعاننا.