أ.د نجلاء حرب تكتب : قمة البريكس.. مزيد من الرسائل الضمنية مزيد من فرص التنمية

أ.د نجلاء حرب تكتب : قمة البريكس.. مزيد من الرسائل الضمنية مزيد من فرص التنمية
أ.د نجلاء حرب تكتب : قمة البريكس.. مزيد من الرسائل الضمنية مزيد من فرص التنمية

"ربما قد حان الوقت لأن نتوقف عن أن نطلق عليها الحرب بين الصين وأمريكا، بل يجب أن نُطلق عليها الإرادة الحقيقية للعالم". لقد جاءت قمة البريكس الأخيرة في جوهانسبرج تحت عنوان " بريكس وأفريقيا: تعزيز النمو التعاوني، التقدم المستدام، والتعددية الشاملة" لتعكس الآمال التكتلية خارج النظام العالمي التقليدي وتحمل العديد من الرسائل الضمنية للعالم. إن تقدم أكثر من 40 دولة بطلب للانضمام كان بمثابة رسالة واضحة لأمريكا ومجموعة السبع بأن العديد من البلدان، بما في ذلك الشركاء التقليديين، يشعرون بالإحباط من النظام الدولي الليبرالي وغير راضين عن الأحادية القطبية في فترة ما بعد الحرب الباردة. خطاب الرئيس الصيني "شي جين"، والذي تم وصفه بأنه شديد اللهجة، كان يحمل في كل جملة معنى واضح، تحدث "شي" أمام القمة عن التغيرات التي يشهدها عالمنا اليوم والتي تكشف التاريخ بشكل لم يسبق له مثيل، والوضع الذي يقود المجتمع البشري إلى ما وصفه "بمنعطف حرج". ودعا "شي" إلى "تجنب السير أثناء النوم إلى هاوية حرب باردة جديدة" وطرح سؤالا هاما وجهه للعالم أجمع "هل يتعين علينا تعميق الثقة المتبادلة من خلال التعاون والتعلم المتبادل، أم السماح للغطرسة والتحيز للضمير الأعمى؟" وترك الإجابة لإرادة الشعوب. في الوقت ذاته أكد "شي" على أن البريكس لا تستهدف مواجهة الولايات المتحدة ولا نفوذها العالمي مؤكدا على أنه "يتوق لرؤية عالم مفتوح وشامل ونظيف وجميل يتمتع بالسلام الدائم والأمن العالمي والرخاء المشترك وأضاف "لا يستحق العالم كل هذا العناء لأن الحرب دمرت الدول المسالمة ذات يوم"، وفي رده في رده على رسالة من جمعية التبادل الشبابي والطلابي الأمريكية الصينية وشخصيات صديقة من جميع مناحي الحياة في ولاية واشنطن بشمال غرب الولايات المتحدة ذكر أن "الأمل والأساس للتعاون الصيني الأمريكي، وعلى أن العلاقة تكمن في الشعب، والمستقبل في الشباب". ويعكس هذا الخطاب إن تكتل البريكس لا يحمل في مضمونه معادة للتكتل الغربي كما يدفع البعض بل دعوة للمجموعة لقيادة نموذج أكثر تكافؤً وأكثر شمولية للعالم. وربما يؤكد ذلك أيضا كون الشركاء الاساسيون في التكتل هم أيضًا شركاء استراتيجيون وثيقون للولايات المتحدة، ومن بينهم الهند وهى عضوة في الاتفاق الرباعي (كواد) الذي يضم إلى جانب الولايات المتحدة كلٌ من اليابان وأستراليا والهند. كما أنهم يحترمون قوة المؤسسات الدولية والتزاماتهم بها وأبرز دليل هو قيام جنوب أفريقيا بإعادة تنظيم القمة، بعد أن اختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تخطي الحدث بسبب لائحة الاتهام الموجهة إليه من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وباعتبار جنوب أفريقيا عضوا في المحكمة الجنائية الدولية، فإنها كانت ملزمة قانونا باعتقال بوتين لدى وصوله إلى البلاد.

على الجانب الآخر، أثار بعض المحللين الشكوك بشأن الرغبة الحقيقية للمجموعة مع الدفع بأن الصين تحاول أن تلعب دور القيادة العالمية لتحقيق أهدافها، وأكد البعض على ذلك من خلال الانقسامات داخل المجموعة حول توسعها، فبينما عبرت كل من البرازيل والهند عن قلقهما بشأن أن يؤدي التوسع إلى إضعاف نفوذهما والتأثير على سياسات عدم الانحياز الخارجية. بيد أن الصين وروسيا عززتا رغبتهما في وضع مجموعة البريكس كثقل موازٍ لمجموعة السبع وغيرها من التحالفات التي يقودها الغرب بدعوة ستة أعضاء فقط من جميع المتقدمين بطلب الانضمام لتصبح الكتلة الوحيدة التي يزيد عدد سكانها عن ملياري نسمة، وتضم ثلاث دول نووية، ودولتين من أكبر منتجي النفط عالمياً. كما ركز البعض على أن الكتلة في اجتماعها التاريخي، لم تلقي الضوء على مشاكل بدائل العملات، وفتح البحر الأسود أمام صادرات الحبوب الأوكرانية التي تعتمد عليها العديد من البلدان الأفريقية، وتجاهلت شكاوى التهميش والاستغلال التي ألقتها عشرات الدول الصغيرة غير الأعضاء خلال اجتماعات القمة يوم الخميس.

ملف أخر غاب عن القمة وهو العملة الموحدة للتعامل داخل الكتلة فيما أُطلق عليه "إزالة الدولرة" . ويرى معظم المحللين أن هذا المقترح غير قابل للتطبيق، وهو ما أكدت عليه "ليزلي ماسدورب" المديرة المالية لبنك التنمية الجديد التابع للبريكس، لتلفزيون بلومبيرج الشهر الماضي حيث ذكرت إن كتلة البريكس ليست في وضع يسمح لها بإنشاء عملة مشتركة. كما أعلن " شيفشانكار مينون"، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الهندي السابق، بشكل مباشر عن رفض بلاده للجهود التي تبذلها الصين وروسيا لإضعاف هيمنة الدولار. أما "جيم أونيل"، كبير الاقتصاديين في بنك "جولدمان ساكس" الذي صاغ مسمى البريك (BRICs) على المجموعة قبل أكثر من عشرين عاما، فقد رفض هذه الفكرة مستبعدا إنشاء بنكا مركزيا للمجموعة ومستبعدا سيطرة الرينبي على الاقتصاد العالمي مع الاعتراف بإمكانية زيادة نفوذه كعملة عالمية، حيث قال" أنني سمعت الناس طوال أربعين عاماً يقولون أن الين سوف يتولى زمام الأمور، ثم اليورو سوف يتولى زمام الأمور، والآن لدينا هذا الشيء المتعلق بـ "مجموعة البريكس"، والسبب وراء عدم سيطرة الين مطلقًا هو أن اليابان لم تصبح بهذا الحجم، والسبب وراء عدم سيطرة اليورو على الإطلاق هو أن الأوروبيين لم يرغبوا في تحمل المسؤولية المصاحبة لكونه عملة احتياطية عالمية، وليس من الواضح بالنسبة لي أن الصين تريد هذه المسؤولية، بالتأكيد ليس الآن، وربما ليس في المستقبل المنظور، لأنها مسؤولية". وواقعيا، وفقاً لصندوق النقد الدولي، فإن ما يقرب من 60% من الاحتياطيات الدولية محتفظ بها في أصول مقيمة بالدولار، كما أن الدولار هو العملة الأكثر استخداماً في التجارة مما يستبعد إلغاءه على الاقل في المدى القصير.

وحول المنافع التي يمكن تحقيقها من خلال الانضمام لتكتل البريكس فوفقا لمؤشر تقارب البريكس الذي أعده فريق من جامعة "تافتس" الامريكية ضمن مشروع بحثي حول تحالفات القوى الصاعدة الذي تضمن تحليلا شاملا لتطور مجموعة البريكس وعلاقة المجموعة بالولايات المتحدة الأمريكية في إطار 47 سياسة محددة تتراوح بين الاقتصاد والأمن والتنمية المستدامة خلال الفترة بين عامي 2009 و2021، أشارت النتائج إلى وجود تزايد التعاون والتقارب في هذه القضايا، وخاصة فيما يتعلق بالتنمية الصناعية والتمويل. وربما أحدث دليل، خلال حرب أوكرانيا، ضمن شركاء موسكو في مجموعة البريكس بقاء روسيا اقتصاديا ودبلوماسيا في مواجهة المحاولات الغربية لعزل موسكو، وشاركت البرازيل والهند والصين وجنوب أفريقيا مع روسيا في 166 حدثًا لمجموعة البريكس في عام 2022، كما أصبح بعض الأعضاء أسواق تصدير مهمة لروسيا. وعليه فأنه يمكن أن تشهد المرحلة القادمة تقاربا واضحا بين مصر ودول المجموعة بما يشمل المنضمين الجدد ، وربما التوصل لحلول لبعض قضايا الخلاف مثل سد النهضة مع أثيوبيا.

وإذا كانت الكتلة عبارة عن ترتيب غير رسمي بدون ميثاق، إلا أنها طورت بعض الترتيبات لتعكس الطابع المؤسسي، سواء من خلال مستوى عالٍ من التفاعل السياسي (مثل مؤتمرات القمة السنوية)، أوإنشاء مؤسسات اقتصادية مثل بنك التنمية الجديد (NDB) وترتيب احتياطي الطوارئ (CRA)

وإذا كانت استفادة مصر من احتياطي الطوارئ لدول البريكس أمرا متاحا، إلا أننا  نرى أنه يجب أن يكون الخيار الأخير في ظل تزايد حجم الديون الخارجية لمصر. بينما يمكن أن يمثل بنك التنمية الجديد فرصة لتعزيز شراكات التنمية المستدامة ودعم التمويل المستدام في مصر في إطار المحفظة الحالية للبنك والتي تتوافق مع مجالات اهتمام رؤية مصر 2030 (30% في مجال الطاقة، 24% في مجال النقل، المياه والفيضانات الصحي(25%)، التنمية العمرانية 17%، والانتاج النظيف 4%) 

إن الفرصة الحقيقية لمصر تكمن في تعزيز الاستثمار الحقيقي من دول التكتل لجلب المزيد من الفوائد للتنمية الاقتصادية المستدامة والشاملة من خلال مشاريع مستدامة اجتماعيا وبيئيا واقتصاديا والاستفادة من الميزة التنافسية لهذه الدول خاصة في مجالات التكنولوجية. ويتطلب ذلك الأمر التحرك في الاتجاه العام لبيئة سياسات استثمارية أكثر انفتاحًا ودعمًا. وهو ما سوف ينعكس بالضرورة على تعزيز التجارة البينية مع دول المجموعة والتي تعكس وضعا لصالح دول المجموعة باستثناء  جنوب أفريقيا ( 233.5 مليار دولار قيمة واردات مصر من دول المجموعة، 41.1 مليار دولار قيمة صادرات مصر لدول المجموعة خلال الفترة  2010-2022)، الأمر الذي يتطلب التحرك السريع لرفع تنافسية الإنتاج المحلي والاندماج في سلاسل القيمة العالمية مع هذه الدول، ورفع كفاءة البنية الاساسية والبيئة الداعمة للتصدير.

كما يمكن أن يؤدي التقارب بين الدول إلى وزيادة السياحة الوافدة من هذه الاسواق السياحية الواعدة والتي تتميز بمستويات إنفاق قوية ويتطلب ذلك أيضا العمل على توفيرسياسات تيسيريه لتأشيرات الدخول، وخطوط طيران مباشرة واقتصادية، فضلا عن سياسات ترويجية واعية قائمة على التحليل لهذه الاسواق.

والخلاصة، أن تكتل البريكس الحالي يجب ألا يتم النظر إليه على أنه مدخل لمواجهة النفوذ الأمريكي ومجموعة الغرب، ولكنه فرصة لتعزيز التعاون في إطار أكثر أتساعا وشمولية وتكافؤ، وإن حصد النتائج الإيجابية من خلال الانضمام لهذا التكتل الكبير، والذي تربط مصر بالفعل علاقات بأغلب دوله، يرتبط بقدرة مصر على تعزيز مسار الاصلاحات  المالية والهيكلية  لبناء نظام اقتصادي أكثر تنافسية.

 

* أ.د . نجلاء حرب

مدير مركز العلاقات الاقتصادية الدولية معهد التخطيط القومي