سألتها ذات يوم " لم أرك يوما عابسة أو حزينة"، فابتسمت بعد أن صمتت برهة من الزمن وكأنها تستوعب زلزال صدمة كلامي، ثم تجرعت قليلا من الماء وقهقهت عاليا، فسكتت مجددا وهي تسمر النظر في عيني، ثم فتحت محفظتها وأخرجت منها كنشا صغير الحجم وقلما جافا فخم المظهر وأسود اللون، وضعتهما على الطاولة و أعادت شرب الماء والقهوة وهي تنظر لبقية حرفاء هذا المقهى الراقي وقت الظهيرة، ومنها رددت كلمات أغنية "القلب يعشق كل جميل" لأم كلثوم التي كانت تؤثث المكان وتزيده جمالا ورنقا على جمال ورونق يبعثان على التحليق الحر في سماء الأحلام والأماني ورجاء مستقبل أحسن من هذا الواقع المرير والتعيس.
وبعد فترة من الزمن، اقتربت مني أكثر حتى كادت تلتصق بي على هذا المقعد الطويل الفخم، وهي تعيد عرض نص سؤالي بصوت عال وتقهقه إثر الإنتهاء من طرحه كل مرة وكأنها تستهزء من فحواه وصاحبه، تسأل وتتهكم على المحتوى مستعينة بتقاسيم وجهها وحركات أصابع يديها وتوجهها إلى فوق تارة وأسفل طورا ويمينا طورا آخر وشمالا طورا رابعا...
وصمتت مرة أخرى وهي تدخن سيجارتها والعرق يتصبب من جبيني وكامل جسدي وكأني اقترفت ذنبا ما أو قمت بمعصية كبرى تتطلب هذا العقاب و المشهد المخزي الذي وجدتني فيه حتى خلت بقية الحرفاء يتابعون حوارنا و يسخرون مني - وهو ما لم يحصل بكل تأكيد -، ثم أطفأت السيجارة وقالت لي بصوتها الحنون الطروب:
- رغم مرارة السؤال وعمقه وما سببه لي من جراح - تمنعني من مقاطتعها حين أردت الإعتذار -، ورغم نيله مني أيها الصديق العزيز فإني سأجيبك هذه المرة وقد رفضت شرح هذا الموضوع سابقا على كل من طرح علي مثل هذا السؤال وما شابهه
- (وقد ابتلعت ريقي) عفوا، لم أقصد ما كنت تقولين
- (مقاطعة بشدة) من المفروض أنك تعرفني جيدا رجوعا إلى قدم علاقتنا وقربنا من بعضنا البعض
- (مستعينا برأسي أيضا) نعم، وقد كنت لي السند والدليل والمرشد والمخلص وحتى المخطط لحياتي وقت الشدة، فقد كنا في صغرنا يدا واحدة ضد كل من سولت له نفسه أن يدخل بيننا ويحاول تفرقتنا أو يئد صداقتنا النقية التي تجاوزت تعريفات القواميس والمعاجم في كل لغات العالم (وهي تضحك من الأعماق)
- (بكل ثقة في النفس بعد أن استعادت توازنها) حسنا، أنا دائمة الإبتسامة والفرح والغبطة والتفاؤل وغيرها من الصفات في حياتي اليومية وأمام الجميع، لأن لا أحد باستطاعته مدى يد المساعدة أو إخراحي مما أنا فيه في تلك اللحظة، لذلك فإني لا أظهر غير قوتي وبهجتي للعامة، فيما أترك ضعفي وألمي ودموعي وجراحي لله الذي يبده شفائي وإخراجي من ضيقي ووجعي. كما إن هذا القلم يبكي ويشكو همومه وآلامه على بياض هذه الأوراق ونصاعتها ، فيعبر عما يختلح دواخلي ويزعزع استقرار هذا الجسد الضعيف وتوازنه....
وواصلت العرض والشرح و أردفت قائلة " ولا تنس أن من يعطي سلاحه يموت به لاحقا، فمن الناس من يستغل نقاط ضعفك وآلامك وجراحك ونواقصك وكل سلبياتك و أخطائك ويستعملها ضدك ما إن تختلفا أو تتفارقا أو تتخاصما ، بل إنه يفشي أسرارك ويضيف عليها لمساته وبصماته ورواياته لينال منك.... ،فلماذا أمد غيري بأشياء خاصة يحاربني بها غدا أمام العامة؟؟؟؟.... "، وأنا أستمتع بما ينطقه لسانها ويعبر به وينطق بما يمليه عليه عقلها النير وفكرها المتطور الذي سحر آلاف القراء والمتابعين إلى أن باتت أشهر وأحسن كاتبة في هذا الوطن الذي يكابد البذاءة والقباحة والرداءة في كافة الميادين والقطاعات زمن العجائب والمتناقضات وتدني الأخلاق و الإبتعاد عن الدين وكل حسن من عادات وتقاليد وغيرها...