ومن رحم الصواعق تتأتي المنافع 1-2:
ينطبق هذا المثل على كثير من القصص التاريخي في الماضي ومن الأمثلة الطريفة :
المثال الأول : الفلاح والباشا
نقد شديد لحكومة رياض باشا رفع صاحبه إلى المراتب العليا هذا تماما ما حدث مع الفلاح القروي حافظ القرآن الفتى "إبراهيم الهلباوي" الذي خطر له أن يهاجم رياض باشا قبيل الثورة العرابية وكان الأخير في عنفوان قوته ومعلوم عنه قسوته وشدته وعدم تقبله للمعارضة وقد اجتمعت في قبضته كل الصلاحيات والسلطات مدعوما من الدول الأوروبية الدائنة واشتهر عنه أنه لا يسلم على وزرائه إلا بأحد أصابعه دون أن يتحرك ..استدعى رياض الفتي الجرىء الهلباوي ليمثل أمامه مكبلا بقطع من الخشب ( لم تكن القيود الحديدية قد عرفت) وكانت المرة الأولى التي تطأ فيها قدمي الفتى القاهرة ..بادر رياض باشا بسؤال الفتى عن باعثه للنقد فقال الهلباوي : إتباعا لسبيل الحق فغضب رياض باشا واحتد قائلا : "طب استنى أنا حخرب بيتك "..فرد الهلباوي بلهجته الريفية :"ما تجدرش" ..دهش الباشا وقال :"إزاي؟!" ..قال الهلباوي : "لا أنت ولا ربنا كمان ؟!" زاد اندهاش الباشا ولم يطفىء هذا الاندهاش سوي استطراد الفتى قائلا : "أنا ماليش بيت علشان تخربه"..شجاعة الفتى الفطرية دفعت الباشا لاستخدامه فاستدعى سكرتيره إبراهيم باشا ممتاز وأوكله أمره والاعتناء به وتغيير هيئته الريفية إلى الزي الأفرنجي وأعطاه خمسة جنيهات !!.
أتى الهلباوي في المقابلة الثانية في غير هيئته الأولى مهندما بالزي الأفرنجي لكن لازال على سجيته الريفية وطريقته العفوية فلم يراعي البروتوكولات وجلس دون أن يأذن له رياض باشا فغضب الأخير أشد الغضب وراح يعنفه بشده فإذا بالهلباوي يقول له :"أنا نضيف وأنت نضيف ..احنا الاتنين نضاف ما نجعدش ليه مع بعض " فانفجر الباشا ضاحكا وعينه محررا بالوقائع المصرية براتب أربعة جنيهات ومن هنا كانت البداية وبدأ الهلباوي حكاياته في التاريخ وذلك بحسب مجلة كل شىء والعالم العدد 205 في 13 أكتوبر 1929م
ولمزيد من الاطلاع عنه يرجي العودة لكتبي على هامش التاريخ والأدب وتاريخ حائر بين بان وآن ورواق القصص الرمضاني.
المثال الثاني : الرائد والكوليرا
بحسب كتاب تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الثاني)لجورجي زيدان 1902م كانت مشكلة على مبارك مع التعليم هي خشونة المعلمين وقسوتهم مما دفعه للفرار منه مرات ومرات ..كانت بداية تعليمه القراءة والكتابة على يد رجل أعمى من قريته (برنبال) والتي كانت تتبع مركز دكرنس محافظة الدقهلية لكن ظروف عمل والده أدت إلى انتقال العائلة لعرب السماعنة بالشرقية وهناك ختم القرآن على يد الشيخ أبو خضر في عامين لكن قسوة الشيخ وضربه له مرارا جعلته يرفض العودة له مجددا بل ويهجر الفقه وعلومه ويتجه للكتابة وعهد به أبوه إلى "صديقٌ يتعاطى الكتابة في القسم بناحية الأخيوة" فحدث أن "سأله مرة كم يجمع الواحد والواحد، فأجابه «اثنين»، فضربه بمقلاة البن فشجَّ رأسه" وذلك في جمع من الناس فشق ذلك على نفس الفتى ولما شكا لأبيه لم ينصفه فعظم عليه الأمر واختار الفرار إلى المطرية جهة المنزلة ليقيم لدى خالة له وهروبا من أسرته ومن التعليم .
لكن الأقدار كانت تخبىء له شأن وأي شأن ففي الطريق أصابته الكوليرا وكاد يهلك فرق له أحد الناس وحمله لبيته في قرية (صان الحجر) حتى تماثل للشفاء وكان يدعي أنه يتيم الأبوين لكن والده وأخاه تمكنا من العثور عليه قبل أن يفر من القرية ليعود مجددا لرحلة التعليم وتعهده والده بتعليمه القراءة ثم جعله مساعدا لأحد الكتاب في القسم نظير راتب خمسون قرشا لكن الكاتب لم يعطه قبضه فقرر أن يأخذه بنفسه وحدث "أنه أُرْسِلَ يومًا لقبض حاصل بعض القرى، فقبضه وأبقى معه من المقبوض استحقاقه من الراتب وأرسل الباقي " فغضب عليه الكاتب ووشى به لدى جامعي الأنفار للعسكرية فقبضوا عليه لكن سرعان ما أفرج عنه بعد سعي والده لدى محمد علي باشا ..
ثم التحق بالعمل كاتبا لدى (عنبر أفندي) مأمور زراعة القُطن في أبي كبير وكان حبشيا مما آثار اندهاشه فمثل هذه الوظائف كانت حكرا على الأتراك ثم تبين له أن السر يكمن في مدرسة القصر العيني والتي تعلِّم الخط والحساب واللغة التركية وبالتالي تفتح أمام منتسبيها الأبواب لشغل هذه المناصب العليا ولما كان الالتحاق يستلزمه الوسائط مما يستعصي على قروي مثله إلا أنه وجد ضالته في بوابة خلفية للالتحاق هي مدرسة الخانقاه والتي ينتخب من بين طلابها من يلتحق بمدرسة القصر العيني وتحقق مراده والتحق بمدرسة الجهادية بالقصر العيني وعمره إثني عشر سنة وكانت مدرسة داخلية ذات نظام عسكري صارم وتحمل هناك سوء المعاملة والطعام القبيح ومما زاد عليه أن أصابه الجرب !! وتشاء الأقدار أن يخصص محمد علي باشا مدرسة القصر العيني لتعليم الطب ونقل طلبتها الحاليين ومن بينهم "علي " إلى المدرسة التجهيزية بأبي زعبل وهناك تأثر بأسلوب ناظر تلك المدرسة المرحوم إبراهيم بك رأفت في شرح الدروس الرياضية التي كانت مستعصية على الفهم في تلك الآوانة كالطلاسم وكانت طريقته هذه "باب الفتوح عليَّ" بحسب ما كتب علي مبارك عن قصته .. والواضح أن هذه الطرق المبسطة قد تركت في نفسه أثرا وأصبحت وسيلته في تعليم الأجيال القادمة علوم الهندسة كالعصا والحبل وكان يدرس في الخيام ويخط على التراب ويكتب بالفحم على البلاط كما سنرى لاحقا .
التحق صاحبنا بمدرسة المهندسخانة في بولاق لمدة خمس سنوات وكان ناظرها مهندس فرنسي هو "يوسف لامبيز بك " وسافر إلى باريس ضمن البعثة التي أرسلها محمد علي باشا وضمنها بعض من أنجاله وأحفاده ومن حسن طالع صاحبنا أن كان منهم إسماعيل باشا الذي سيغدو خديوي مصر كما سنرى بعد ذلك .. في عهد الوالي عباس حلمي الأول تم استدعاء البعثة ومن ضمنها صاحبنا وقد رقاه عباس لرتبة يوزباشي وأُلحقه بالجيش المصري وانتدبه بلجنة الامتحانات التي عينها لاختبار مهندسي الأرياف ومن فرط ثقته به أوكل إليه نظارة المدارس ولما ولي سعيد باشا حكم مصر غضب على "علي " بفعل الوشايات ففصله من نظارة المدارس وكذلك العسكرية وعاد الرجل إلى نقطة الصفر مجددا وضاقت أحواله إلى درجة استعداده أن يعمل مدرسا في النظارة التي كان مديرها بالأمس القريب كما لجأ لتجارة الكتب فاشترى بعض الكتب التي عرضتها الحكومة للبيع بأثمان بخسة، وأعاد بيعها فربح من ذلك ما يعينه على العيش ...ثم جاء انفراج حاله من حيث لم يحتسب مع تولي الخديوي إسماعيل حكم مصر حيث تذكر رفيقه في بعثة الأنجال وأوكل إليه مهام عدة منها التنظيم العمراني للقاهرة على النمط الحديث وشق الشوارع وبناء الميادين وإمدادها بالمياه وإنارتها ...حقا أسرف إسماعيل في ذلك ولكن القاهرة وقتها كانت مدينة خالية من كل مظاهر الحياة الحديثة كما أوكل إليه نظارة القناطر الخيرية كما عادت له نظارة المدارس من جديد وله عدة مؤلفات أشهرها الخطط التوفيقية تلك الموسوعة الشاملة التي لا غنى عنها لأي باحث في تاريخ الشوارع والعمائر الإسلامية في مصر كما أنشأ دار العلوم لجمع علوم اللغة والدين والعلوم الكونية وصهرها في بوتقة واحدة لإعداد المعلمين النابهين القادرين على إدارة العملية التعليمية في البلاد ..
وهكذا شاء الله أن يتحول الهارب من التعليم بالإمس إلى رائد للتعليم والعمران في بلاده..
* د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث وروائي مصري