عمرو الزيات يكتب : من (تصدير المنمنات) قراءة في سرديات شيخ المثقفين العرب الدكتور إبراهيم عبد الحميد
استطاع صاحب المنمنمات الدكتور إبراهيم عبد الحميد استخدام تلك اللغة المجازية بشكل عجيب، فهو فنان من طراز فريد يحسن الرسم بالكلمات وتلوينها بتلك العاطفة الصادقة التي تنم عن فرط الإحساس، وله تشبيهات بديعة لم تأتِ استعراضا لعضلات لغوية، بل جاءت قاعدة أساسية تتكئ عليها تلك اللوحات، ومن هذه التشبيهات على سبيل المثال لا الحصر: ( زمانك الذي لم يولد بعد) و(التجأ للرحيل فوق شغاف صراخ الصمت) و( أسند رأسي إلى ظل قرص الشمس)، (تتناسل الكلمات الموبوءة بالخوف )...
فلعل تلك الصور جميعها جاءت خادمة لسياقها وليست عبئا عليه، فليس هم القراء من النص الأدبي أن يتسابقوا في أشواط السمع والبصر، وإنما همهم أن يتعاطفوا ويودع ذلك النص وكاتبه في نفس إخوانه خلاصة ما رآه وسمعه وخلاصة ما استطابه أو كرهه، وما اُبتدع الخيال لرسم الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما يراها الكاتب، إنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس، وبقوة الشعور وتيقظه وعمقه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز المبدع على سواه؛ ولهذا، لا لغيره كان كلامه مؤثرا، وكانت النفوس تواقة إلى سماعه واستيعابه؛ لأنه يزيد الحياة حياة كما تزيد المرآة النور نورا؛ فالمرآة تعكس على البصر ما يضئ عليها من الشعاع فتضاعف سطوعه، والمبدع يعكس على الوجدان ما يصفه فيزيد الموصوف وجودا، ويزيد الوجدان إحساسا بوجوده.
ولا يغفل الكاتب وهو عربي حتى النخاع أن يعمق في القارئ شعور الانتماء للوطن، وإذا كان الانتماء حالة شعور الإنسان والشخص إلى الانضمام إلى مجموعة، وهو عبارة عن علاقة شخصية حسية ايجابية، يبنيها الفرد مع أشخاص آخرين أو مجموعة ما، فإن مفهوم الانتماء إلى الوطن فيعني تلك الحالة والشعور بالانضمام إلى الوطن، وتكوين علاقة ايجابية مع الوطن، وتكوين علاقة قوية تربطنا بالوطن، والوصول إلى أعلى درجات الإخلاص للوطن.
وينبغي لمعرفة مدى انتماء المرء لوطنه أن يشعر بذلك الحس في داخله، ثم يترجم هذه القيمة الإيجابية لانتمائه على أرض الواقع، من خلال استعداده النفسي لأنْ يسلك كل السلوكيات الإيجابية، والتي من واجبها أن تخلق فيه شخصا منتميا، محبا، مخلصا لوطنه، مدافعا عنه من أي عدو أو ضرر.
ففي لوحته البديعة (وطن) يرسم كاتبنا صورة لمعنى الانتماء للوطن، فالوطن ليس مكانا نطلق عليه مجازا اسم وطن؛ بل إنه الذي (يوقظ فيك أحلامك)، إنه أغنية يتغنى فيها المرء بأصوات البسطاء، يتزايد حلم الكاتب فيحلم بهذا الوطن؛ (فهو الإلهام والعشق، والعاشق والمعشوق، تتغنى باسمه نشيدا صادقا خالدا، وتكتب في شهادة ميلادك هذا وطني الذى تتنفس عشقه كل خلية بجسدي..!! )
لم يَفُتْ كاتبنا – في بعض لوحاته - وهو يرسم تلك اللوحات البديعة أن يغوص في أعماق النفس البشرية كاشفا عما يعتمل فيها من أحاسيس ومشاعر، معتمدا على ذلك النمط من أنماط الكتابة، وهو الكتابة السيكولوجية، التي تهدف إلي تصوير الإنسان والكشف عن أفكاره الداخلية، ويصل هذا النوع من الكتابات إلي المستوي النفسي؛ بيانا لأمور خفية بالنفس، ويقوم على نظرية التحليل النفسي وتطبيقها على النتاج الأدبي، كما جاء في: ( حياة ) و( رتابة ) و( مهموم )...
ويمكننا القول: إنه عن طريق بناء الحكاية، وبواسطة اللغة والأدوات الأدبية، يتأسس الانفتاح على الواقع والعالم، وقد نجح كاتبنا في تصوير هذا العالم، وما منمنماته إلا صورة جزئية لهذا المجتمع الذي يعيشه بكل ما يحمله من مقومات عربية وإنسانية، وقد أبدع في رسم الحالة النفسية التي تعالجها منمنماته في صورة رائعة ؛ إيمانا منه بأن الإبداع الفني – أي إبداع - لا ينبع إلا من روح وقلب الفنان متجها نحو روح الإنسانية وقلبها، مصورا ما يدور بتلك الروح مستخدما اللغة وسيلة سحرية.