لم أكَد استقر لأسبوعٍ في المَسكن حَتّى تراءت الأحداث سراعا، لم يكن لي بهِ سابق معرفة، فكلّ ما اتَذكره أنّه من تلك الزُّمرة التّي سَبقتنا لهذه الغُربة الطَّاحنة في بلادٍ بعيدة ، انتحرَ فيها شبابنا ، ووئدت أعمارنا تحت أطباق الليالي الكَئيبة ، وأسبقية الغُربة تلك ميزته وجماعته ليس إلَّا، اعرف عنه اهتياجه ، وتَقلّب مزاجه ، ونرجسيته التي جعلت منه شَخصا عُدوانيا ، يستدعي قوة بدنه بدل لسانه عند الكلام ، فعند محادثته تشعر وكأنَّك قد اصطدمت بجدارٍ.
كانَ ساعتئذٍ على أعتابِ عَقده الخامس ، لكنَّه يَلح في احتجازِ الزَّمن ، أن يتوقف رهن رعونته وتصابيه ، فلا يخلو يومه من جِلسةٍ طويلة إلى جوارِ النَّافذةِ ، يعمل الملقط في سحنته المصفرة ، يأخذ منها بعض شعرات نبتت في خده الأسيل ، يُدير يده في تمَرسٍ ، ونظراته المكروبة لا تحيد عن مِفرقِ رأسه المشتعل بالبياض.
يمُصمص شفتيهِ الغِلاظ في استعبارٍ ، ويزممّهما في تأسفٍ ، يُخرِجُ من صَدرهِ آهة مكتومة ، قائلا في عويل :" آه يا ومن يا خسارة الجدعان".
لازمتُ الصَّمت لأشهرٍ قلائل ، قبل أن يصيبني من هوسهِ ما أصاب من سبقني ، غير أن نويات الضّحك العَفويّ من أحاديث الصَّبابة الَّلزجة ، تُغالبني فتزيل عنّي بقية من مَهابةٍ كُنت احتفظ بها ، ربما لفارق السِّن بيننا ، أو لأنَّنا أبناء بلدة واحدة ، أو لأننَّي تَعوّدتُ هذه الخصال ، بيد أنَّي لم استطع عليه صَبرا ،فكانت تَنتابني مَوجات مُتقطِّعة مِن الضَّحكِ الهستيريّ ، خاصةً بعد إذ استذلته شهوة الكلام ، فاندفعَ كمراهقٍ غِر مُنتشيا يُعدِّد مزاياه ، التي أوقعت زوجته في شؤم غرامه ، كُنت على بينةٍ من هذه المسألة ، فقد أُكرِهت المسكينة على الزواج منه، بعد عَذابٍ أوصلها لحافةِ التَّهلكة .
كانَ دائم التَّمرد على ثقافتِه الضّحلة ، التي لا تتعدى في أحسن حالاتها العُكوف على مشاهدة نشرات الأخبار ، وبرامج عالم الحيوان ، وقنوات روتانا ، أو ربما التَّعثر في تَعتعةٍ ممُرضة ، لقراءةٍ لا تجُدي في صَحيفٍة قديمة ، ينوي فرشها للأكل.
اعتدل يوما في جِلستهِ ، َمرّر يده فوق شاربهِ المسنون ، وبنظرةٍ باردة تخلو من لياقة ، رماني دول اكتراث قائلا :" ما هي شهادتك؟"، حدجني بعينٍ ماكرة مُحاولا الانتقاصَ من شأني ، لكنيَّ لم افوّت الفُرصةَ على الألمعيّ الفَذّ، قلت له ترضية لنفسه :" في هذا الزمان العقيم التعليم لا يساوي شيء " ، هزَّ رأسه لتَذوب مَلامحه في ابتسامٍة بلهاء ، قائلا في رضا :" صحيح.. صحيح" ،كانت أحواله المادية تَهبه الثِّقة لأن يتَحَّدى أرباب الشَّهادات أمثالي ، ويعقد بينه وبينهم المقارنات بغيِر مُناسبةٍ ، يَترصّدهم في تَحدٍّ مشبوب باستهزاء ، وكأن لسان حاله يردد :" ماذا أغنت عنكم شهاداتكم غير البَهدلة في الغُربة "، نَصحني أحد الخُبثاء نصيحة ذهبية ، أن أسايره ما استطعت ، فلا أُكلِّف نفسي حِينئذ مَشقة فرط بلاهته ، وقد كانَ، حتّى توثَّقت الصَّداقة بيني وبينه أو كادت .
ضَمن له سَفره المُبكر راتبا معقولا بأحدِ الدوائر الحكومية ، أسَبغَ هو على وظيفته بمرور الوقت طَابعا خَاصا، أوهم ضَحاياه بأنَّه نافذ الصِّلة وكبار المسؤولين ، لاحقا لم أجد في مُخالطته مَشقة تذكر، بل وجدتني أمام إنسانٍ ناقض ، يَسعى للَكمالِ بقدرِ الَّنقص الذي فيه ،فهو ضحية بين نفسه المُحتّرقة المُسلطة عليه ، تُشعره بالعَجزِ وعَدم الكِفاية ، وواقع يأبى إلاَّ الاعتراف بسطوة المال ونفاذ أهله.
جَمعتنا جِلسة ذَات ظهيرة ، ألقى إليَّ بوسادةٍ ، قَرَّب مني طبق التسالي ، تَنحنح في افتعالٍ ممَجوج ، قائلا :" لو عُرِضَ عليَّ وظيفة براتب لا يقل عن خمسة آلاف جنيه ، عندما يمكنني التفكير في السفر"، شعرت بصوت كركبة ، تلاحقت خطواتي تجاه الحَمام ، لكنّني اكتشفت أنّ الصّوت يَصدر عن رأسيّ المُتشنج ، أمام المرآة أخذت نَفسا عَميقا ،عُدت إلى مَجلسي صَامتا وكأن شيئا لم يكن ،استحضر في عَذابِ ذِكرى من سبقني لهذا المُنحدر.