محمد فيض خالد يكتب : حكايات البرلس

محمد فيض خالد يكتب : حكايات البرلس
محمد فيض خالد يكتب : حكايات البرلس
 
 
كُلّ ما اتذكره صَوته الجّهوري المُشبع برغوةِ الصَّباحِ الصَّحو ، المُكلَّل بتيجانِ النَّدى فَوقَ الغيطان ، يجَوبُ في قَامةٍ مُنتَصبةٍ كأعوادِ الذرة الصَّيفي ، وجَسَدٍ يئَنُ تحت أثقالِ السنين الطوال ، يتصايح في إيقاعٍ واحد لا يُغيِّره :" عال البرلس " ، في المُبتدأ تَمنَّع عَليَّ كلامه ، ظَننت صَاحبنا يتَبع شفرة معيّنة ؛ يَسرقُ بهِا أسماع زبائنه ، رُبَّما استدعاه ظُرفه المعهود أن يصنعَ  هذا ،  في توليفة بشرية غريبة،  نكتة حاضرة ، وحاجبان يرتفعان كبندولِ الساعة في ترَاقصٍ مُضحك ، ولسانٌ ممدود بلا تحفظ ، يبسط حديثه الطَريف لطُوبِ الأرض . 
اتَعجّب لمِزاجهِ الصَّافي حِينَ يَصدّحُ بأغانيهِ ، بصوتٍ مَشروخ يصارع رائحة العَطَن الطافحة من الجُدرانِ المريضة ، يهزّ كتفيهِ العريضين وقد استقرّت عليهما " المشنة" تفوح منها رائحة الخضرة الطازجة ، من حزم النعناع والجرجير والبصل الأخضر والبقدونس والفجل والكراث . 
في دَقائقٍ يلَتف حَوله أبناء الزُّقاق ، يشرع وقتها في تَوزيعِ حَبّات "النبق والبلح الأخضر" ، يَتصَارع الصِّغارُ في ونَسٍ :" أنا يا عم جمال .. أنا يا عم جمال "، يلوكون في تَلذّذ نفحته ، وعيونهم  تفَيضُ مُمتنة لكِرمهِ، عَلى هَيئتهِ المُعتادة لم يتَغيَّر منه شيء ، لم ينَل الزَّمان من دِفئهِ ، حَتى سِحنته المُعبرّة ، وبُؤسه  المتقاطرُ من بين أصابعِ قدمه الحافية ، وكأنَّ الفَقر قد تَرَكَ العالمين فلازم أعتابه لا يبرحها . 
مراتٍ كثيرة أظنه أسعدَ مخلوق على وجهِ الأرضِ ، بعد أن تَرَكَ الدنيا لأهلها ، واكتفى منها بما تدره عليهِ حِزمات الخُضرة  ، بالكادِ تكفيه قروشها  الخبز الحاف ، لا اعرف تفاصيل معيشته غير أنّه من فُقراءِ القرية الذين اكتفوا من الدُّنيا بالكَفافِ ، قراريط ورثها أوقفها على زراعةِ هذه الأصناف من الحَاصلاتِ .
في صبَيحةِ يومٍ غائم حَنّت فيهِ السّماء قليلا على الأرضِ المُتَحفّزة لمدامعها السَّخية ، رأيته وقد اتّخَذ لنفسهِ مكانا قَصيّا ، يُطالِعُ في انزعاجٍ شعاع الشّمس اليتيم المُنفلِّت من جوفِ السِّحبِ ، لم اسمع لصوتهِ أثر ، لكنه لم يتخلى عن إشراقِ روحه ، فترك الأيدي تُقلِّب الخُضرة ، اعطى الصغار حَبّات " النبق " كعادتهِ ، هالني ضعفه البادي ساهم الطَّرف ، يهشّ بيده،  يلتقط القروش يضعها في كيسه مذهولا  ، ينكش الأرض بعصاه ، يحمق في الأفقِ الرَّمادي ،. ريثما يَعودُ يَمسح  بعينيهِ فوَقَ الخُضرة المُتلألئة، يَهرشُ عمامته في إشراقٍ  يُشاغِبُ عائشة الدلالة :" أيام وأصبح من الأغنياء ، اخبرني الاستاذ "عاطف المحامي"  أنّ قضية الوقف رابحة  "، ينصرف في كل مرةٍ يلوكُ أحلامه في نشوةِ السَّكرى ، بعد أسابيع  كان قد انتهى من محصولهِ ، عَرَضَ أرضه للبيعِ  مُكتفيا بأمانيهِ ، يُردِّدها كطفلٍ صغير ، وفي عَادَ ذاتَ مرّةٍ من البندرِ يلعقُ شفتيه بعصبيةٍ ، قد تغيّرت لهجته من الهدوء للحدِّةِ ، يُلازم الكوبري من الصَّباحِ حَتّى المغيبِ ، لقد اختفى الاستاذ " حسب النبي" وكيل المحامي ، بعد أن سَلَبه ثمن قراريطه دُونَ علم محاميه ، بَعدَ أيامٍ تَبخّرَ الرجل ، بَاعَ غُرفَته " لمحاسن" التي ملأتها ببراميلِ الجَاز ، تلَاشى صوته ، واختفت رائحة الخُضرة ، انتظر الصِّغار حَبّات "النبق والبلح الأخضر" ، لكن طَالَ الانتظار .