إدوارد فيلبس جرجس يكتب : محاكمة عزرائيل " ١٠ "

إدوارد فيلبس جرجس يكتب : محاكمة عزرائيل " ١٠ "
إدوارد فيلبس جرجس يكتب : محاكمة عزرائيل " ١٠ "
 
أراحها من التفكير ظهور نفس الشاب الذي ظهر فجأة عندما انتهت حياة الزاهد، يحمل وعاء الماء، والثوب الأبيض المطوي بعناية فوق كتفه، وقال بنفس لهجته السابقة:                                                                                   
- أتركيه لي، اذهبي بالمصل إلى أفريقيا، هناك الكثيرون يحتاجون إليه، هذه مسئوليتك عنها.                                                                             
- وكيف سأقوم بهذا العمل لوحدي.                                                       
ابتسم الشاب قائلاً:                                                                      
- كل شيء يسير على الأرض بقوة لا يدرك البشر سرها.                                
هزت رأسها وكأن هذه الكلمات أقنعتها وطرحت أمامها الحل، سارت في طريقها وهي تفكر في خطوتها القادمة، ما أن ابتعدت عن المكان قليلاً، حتى هاجمتها سيارة سوداء كبيرة، سمعت صوت طلقات نارية تزف حولها. أطلقت ساقيها للهرب داخل جوف الأشجار الممتدة إلى مسافة كبيرة من الجانب الآخر، أحست بأن الرصاصات قد نفدت جميعها إلى جسدها، لكنها لم تتوقف، تنظر إلى الأرض متوقعة أن ترى الدماء النازفة من جسدها، توقفت ولهاثها يطن داخل أذنيها، حاولت أن تغلق فمها وهي تظن أن قلبها يتحين الفرصة بدقاته المكوكية للقفز خارجه، أصابتها الدهشة عندما اكتشفت أن جسدها لا تلونه بقعة دماء واحدة . فكرت أن تجلس أسفل شجرة حتى تخمد ثورة أنفاسها ، لم تستطع أن تهنأ بالفكرة وصوت الأغصان الجافة تتهشم فوق الأرض تحت ثقل أقدام تحاول أن تجد لها طريقاً بين الأغصان المتشابكة ، لم تشك لحظة واحدة في أن هذه الأقدام لمطارديها الذين تخلوا عن السيارة واندفعوا خلفها ، احتضنت المصل ووثائق الاختراع ، لن تستسلم لهم حتى لو كان الثمن حياتها ، انطلقت ثانية بين الأشجار تبحث عن مخبأ لها ، أو على الأقل للمصل وللوثائق ، تفكيرها المشوش لا يستقر على حال ، طافت في ذهنها لمحة سريعة من حياتها الماضية وحياتها الآن المزدحمة بغرائب لم تتخيل ولو للحظة أنها ستجد نفسها داخل خضمها ، تساءلت أليس من الأفضل لو كان عزرائيل أنهى حياتها وهي معلقة فوق الشجرة هي وطفلها رونالد عقب حادثة الطائرة ، لم تعجبها الفكرة بالرغم من الموقف العصيب الذي تجابهه الآن وخلفها مطاردون لا يتوانون عن قتلها في سبيل الحصول على المصل ، الآن تشعر بذاتها وأنها تحمل من المسؤوليات ما لا يتحمله بشر ، كيف يقتلونها وهي بذاتها عزرائيل الذي ينتزع الأرواح ، تذكرت العصا الخضراء التي تحملها لتقتطف بها الأرواح من الأجساد ، طافت بذهنها  فكرة تلاعبت بين الموافقة والرفض ، ماذا لو اعتلت أحد الأشجار ووجهت العصا الخضراء نحو مطارديها  وأنهت الموقف لصالحها ، لكن من المؤكد أن أعمارهم لم تنته بعد  وسيثير هذا التصرف غضب الرجل الغريب الذي يوجهها  وقد تعاقب عقاباً صارماً ، عزرائيل الحقيقي سجن في جوف سمكة القرش لأن العاطفة تملكته من أجل طفلها رونالد الذي كانت تحتضنه ، ولأول مرة خالف الأوامر وتغافل عن أخذ روحها وأبقاها على قيد الحياة ، كيف تأخذ بهذه الفكرة الحمقاء وتنهي من ذاتها حياة مجموعة من الأشخاص ، لم يرد ذكرهم في قائمة الرحيل عن الدنيا ، تذكرت القائمة التي سلمها لها الغريب ، وتذكرت بأنها انتهت وأنها أنهت حياة آخر اسم بها ، فلماذا لم يأت الغريب ليسلمها قائمة جديدة ، تحمل أسماء من عليهم الدور لمغادرة الحياة ، لاحت فوق شفتيها ابتسامة سخرية وهي تفكر أنها ربما نالت ترقية في وظيفتها ، وأنه لن يمدونها بقائمة جديدة ، وسيتركون لها حرية اختيار من تنهي حياتهم . نطقت بكلمة "اللعنة" بصوت مرتفع عندما فاقت من أفكارها وهي تختبئ خلف أحد الأشجار الضخمة على صوت الأغصان الجافة تتهشم تحت وقع أقدام قريبة منها ، ضغطت قارورة المصل ووثائق الاكتشاف فوق صدرها واستعدت لمواصلة العدو هرباً ، ما كادت تهرول بعض خطوات حتى فوجئت بالرجل الغريب أمامها ، لم يعطها فرصة للسؤال، وضع بيدها قائمة بالأسماء الجديدة وأمرها أن تشير بالعصا نحو الاسم الأول في القائمة لتنتقل سريعاً وتهرب من مطارديها ، على وجه السرعة وبتأثير الخوف من ملاحقة مطارديها ، اتجهت مقدمة العصا إلى الاسم الأول بالكشف دون أن تحاول معرفة من هو الذي عليه الدور في الرحيل ، أو وقت رحيله . فوجئت والدهشة تتخلل عقلها بأنها داخل منزلها ، أنستها مفاجأة ظهور الغريب وهربها السريع من أن تقرأ الاسم الأول في القائمة الذي أشارت نحوه بالعصا وعليه الدور في الرحيل ، أخرجت القائمة ، أطاح برأسها دوار كاد أن يفقدها توازنها ، أعادت النظر وهي تقرب القائمة وتبعدها عن عينيها ، تشك إن كان أصابها العمى ، أو هي في حلم أو كابوس ، لم يكن اسماً واحداً ، اسمان متجاوران ، توقيت رحيلهما واحد ، تعيد قراءة الاسمين وترددهما بصوت خافت ، وكأنها تريد أن تُسمع أذنيها ، من هو جورج تيري المسجل بالقائمة ، هل هو زوجها؟ ، من هو رونالد جورج تيري ، هل هو ابنها ؟، كادت أن تفلت منها ضحكة هستيرية ، هل يمكن أن تكون عزرائيل الذي سينتزع الحياة من زوجها وطفلها ، من المؤكد أن هناك خطأ ، قد يكون الأمر اختلط على الغريب وسجل اسميهما خطأ .. لا من المستحيل أن يخطئ الغريب في مسألة الموت والحياة، مسألة لا تحتمل الخطأ، هو الذي يقوم بعملية التنظيم حسب الأوامر العليا التي تأتيه، أي خلل قد يذهب به إلى ما لا يعلم ، أخطأ عزرائيل في شخص واحد في التنفيذ وكان عقابه السجن داخل جوف سمكة القرش ، وهنا في القائمة اثنين وليس شخصا واحدا ، جورج تيري ورونالد . من المؤكد أنهما المقصودان، والدليل أنها عندما أشارت إلى اسم جورج تيري دون أن تقرأه وهي في الغابة، وجدت نفسها داخل منزلها، هذا ما يحدث منذ أن بدأت عمل عزرائيل، تشير بالعصا نحو الاسم الذي عليه الدور للرحيل، وفي لحظة تجد نفسها بالقرب منه دون أن يراها . الآن هي في منزلها وفي المنزل جورج تيري زوجها ورونالد ابنها. تراخت أعصابها، كادت قنينة المصل تهوي إلى الأرض، سارعت إلى المطبخ وخبأتهما في مكان مختفي، أعادت النظر إلى الكشف ثانية، أنساها انفعالها أن تقرأ وقت الرحيل ، فزعت أمام الساعات المتبقية ، ست ساعات وخمسة عشرة دقيقة  وثلاث وأربعون ثانية . جلست فوق الأرض وسط بركة من الدموع، تحاول أن تبعد شبح الجنون الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى، فيلم ناطق ومصور تستعرضه خلال شاشة من الدموع. أول مرة تقابلت مع جورج تيري، صداقتهما التي تحولت إلى حب، زواجها منه، غباؤها عندما تخيلت أنها تحب صديقها القديم وخيانتها لجورج ، الآن تمنت لو كانت ماتت قبل أن تقدم على هذه الخيانة ، اكتشفت أنها لم تتخل عن حب زوجها أبداً ، لكن الشيطان بغوايته التي لا تتوقف هو الذي دفعها لهذا الطريق . الفرحة الغامرة التي لفتهما بعباءة السعادة في المستشفى عندما علما أنها تحمل في أحشائها طفل ، مقدم رونالد والفرحة معه ، هل كل هذا سيصبح في حكم الذكرى ، نعم بعد ساعات قليلة سيذهب جورج تيري ورونالد  إلى المجهول ، لن تُسر عينها برؤية رونالد في مرحلة الصبا والشباب ، كانت تحلم أن تختار له عروسه ، وأن تستقبل أولاده ، كل شيء انتهى الزوج والابن ، بيدها ستنهي كل شيء ، مجبرة أن توجه نحوهما العصا الخضراء بعد سويعات ، ستشاهد بعينها توقف أنفاسهما معاً ، هبت واقفة وتقطيبة هائلة فوق جبهتها ، تردد بصوت محشرج وكأن هناك من يلف أصابعه حول عنقها .. لا.. لن يموتا.. لن يموتا. العصا الخضراء معي.. هي التي تقطف الأرواح، لا يوجد غيرها، ماذا لو اختفيت، حتى تمضي هذه الساعات الباقية في سراج حياتهما، من المؤكد سيكتب لهما الحياة بأي صورة من الصور، كما حدث معي، يجب أن أخرج من المنزل واختفي، على الأقل لن يموتا بيدي ، أو على الأرجح لن يموتا على الإطلاق ، ليس من المعقول أن يأتوا بعزرائيل آخر ، أو يُفك سجن عزرائيل الحقيقي ، وحتى لو حدث هذا ، العصا الخضراء قاطفة الأرواح ستكون معي . ماذا لو تجاهلت اسميهما، وأشرت بالعصا على من يليهما في الدور. نعم فكرة هائلة ، قد ينسونهما ، من المؤكد أن هناك من يراجع العمل الذي أقوم به ، لكن قد تحدث له بلبلة عندما يجد الذي بعدهما انتقل من الحياة ، ويظن أنه لم ينتبه لعمله جيداً وأن زوجي وابني أيضاً انتقلا من الحياة ولم ينتبه لذلك ،  من المؤكد سيعتقد أنه هو الذي أهمل المراقبة وسقط منه سهواً تسجيلهما ضمن الذين رحلوا ، سيخشى اتخاذ أي خطوة للتأكد خوفاً من افتضاح أمره ، سيصمت ولن يتحدث ، يا لروعة تفكيرك يا سيلفيا ، بهذه الحيلة ستكتبين لهما الحياة للأبد ، لأنه لن توضع أسمائهما مرة ثانية في القائمة ويعيشا للنهاية . أخرجت القائمة، تهلل وجهها عندما وجدت الاسم التالي لم يكن وحده، بجانبه اسم آخر لسيدة أو فتاة، الاثنان في نفس التوقيت، عشرة دقائق وخمسة وثلاثون ثانية بعد رحيل زوجها وابنها ، سيسهل هذا مهمتها ، الدقائق القليلة بين الرحيلين ستساعد على عدم اكتشاف تلاعبها . ماذا تنتظرين يا سيلفيا؟، أشيري بالعصا واهربي من منزلك سريعاً. لم تتوان بعد أن سيطرت الفكرة على عقلها تماماً وأصبحت أسيرتها ولا مناص من التنفيذ.         
أشارت سيلفيا بالعصا نحو الاسمين التاليين لزوجها وابنها ، وجدت نفسها داخل شقة بسيطة ومتواضعة ، أثاثها كله يقول أنه لم يستعمل بعد ، بعض الزهور مبعثرة فوق منضدة لا تزال عامرة ببعض أطباق الطعام ، فوق الأريكة طرحة بيضاء لعروس ملقاة في غير عناية ، ضحكات تسللت إلى اذنيها من خلف باب مغلق ، نظرت من ثقب الباب ، تصاعدت الدماء إلى وجهها ، عادت ببصرها بعيداً عن الثقب ، تذكرت الليلة الأولى  لزفافها والقبلات المحمومة التي كادت أن تشعل النيران في الفراش ، أعادها الفضول إلى ثقب الباب ثانية ، الموقف كله يقول أنها الليلة الأولى لزفافهما ، فستان العرس الملقى فوق الأرض ، اللحظات المحمومة الأولى قد انتهت ، العروس تلقي برأسها فوق صدر عريسها العاري ، كلمات هامسة تسمعها لكن لا تفهمها ، اللغة غريبة ،   تذكرت أن الغريب قال لها أنها لو ضغطت على مؤخرة العصا الخضراء ، يمكنها أن تفهم أي لغة ، لأن مهمتها في وظيفة عزرائيل ليست محصورة في بقعة واحدة من العالم ، وفي بعض الأحيان قد تضطر إلى أن تسمع وتفهم بعض الكلمات من أشخاص قبل أن تقتطف أرواحهم . تسربت الكلمات الهامسة باللغة العربية من الزوجين.                                                                                                
- هل أنت سعيدة يا حبيبتي؟                                                               
قبلت صدره العاري:                                                                       
- أكثر من سعادتك يا حبيبي.                                                              
قال وأصابعه تتخلل خصلات شعرها المسترسل المتشرب بأشعة الشمس:                                                                          
- طال انتظارنا لهذه الليلة يا حبيبتي.                                                    
قالت وأصابعها تجذب برقة شعيرات من شعر صدره الكث:                            
- سبع سنوات قضيناها في فترة الخطوبة بين التشاؤم والتفاؤل أن نصل لهذه الليلة، لكن نحمد الله انتهى كل شيء على خير، والآن نسكن أحضان بعضنا.                  
- نعم.. نحمد الله.. كنت كلما أسمع تهديدات والدك بفصم الخطبة إن لم أنته من إعداد شقة الزوجية يرتعد قلبي.                                                                
ارتفعت برأسها ولمست شفتاها شفتيه وقالت:                                             
- وهل راودتك الشكوك بأنني سأتخلى عنك ببساطة أمام عقولهم المتجمدة، التي تفكر في الزواج على أنه مهر وشقة وأثاث!!                                                                          
- أحياناً الغلبة تكون لهذه العقول المتجمدة.                                              
قبلة سريعة وقالت:                                                                      
- ليس في مثل حالتي وحالتك الموت بالنسبة لي أفضل كثيراً من الحرمان منك.       
جذبها بشدة إلى صدره                                                                     
- لا تذكري هذه الكلمة يا حبيبتي في أول ليلة من زفافنا، يقولون إنها فأل سيء.                                                                           
وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة؛