ونحن نعيش مرحلة ننشد فيها تفعيل عمليات التنمية ، لا بد ندرك أنه لا تنمية حقيقية بدون تنمية العقل والوجدان والفكر ، فلا طائل من تحقيق تنمية سياسية أو اقتصادية إذا لم يسبقها أو يواكبها عمل جدي متواصل في مجال دعم كل آليات التنمية للثقافة ، اعتمادًا على منظومة تعليمية تدفع في اتجاه إعمال العقل والتفكير والإبداع في كل مراحل تطبيقاتها الحياتية ..
قد يبدو غريبًا لو عقدنا مقارنة بين حالنا في زمن محدودية إتاحة التعليم والقيود التي كانت لا تسمح بتوفير بنية تعليمية وتربوية وإبداعية معقولة ، ومع ذلك كانت لنا ريادة إقليمية وعربية في الثقافة والفكر التنويري والتعليم ، والآن وبعد توفير المزيد من فرص الاتاحة ببناء آلاف المدارس ومئات بيوت الثقافة نعاني ـ للأسف ــ من وباء الأمية الثقافية وانتشار المزيد من مظاهر الدجل والفهلوة و الجهل !!
ومعلوم أن التفكير النقدي يتمثل في القدرة على القيام بعمليات التأكيد على صواب أو خطأ القضايا المطروحة باستخدام آليات التفكير المختلفة والتحليل العقلي، أما التفكير بمفهومه الواسع هو حركة الذهن في المعلومات المتاحة للوصول إلى المجهول..
يقول توماس كارليل: " يمكنني القول أن أعظم الأخطاء هو أن يكون المرء غير مدرك للأخطاء التي يرتكبها " لتلخص تلك المقولة أهمية التفكير النقدي، فبدون القدرة على النقد يمكن بسهولة الخلط بين الحقيقة والأوهام وبين الصواب والخطأ.
ولا ريب ، نحن في احتياج لتفعيل آليات تطبيق فكر علمي وموضوعي و الأهم نقدي وابتكاري نبث أدواته وأمثلته لشبابنا ، وليس المطلوب الآن تثوير ذلك الفكر النقدي لصياغة معارك ذات جاذبية إعلامية تجارية للشهرة والتلميع الغير مستحق لبروزة أدعياء المهنية الكاذبة ..
نحن في حاجة إلى فكر نقدي يساهم ، بل و يدفع جهود التنوير للتفعيل والإضافة إلى رصيد أهل الإصلاح والتنوير الأوائل ، فلولا خطواتهم الأولى ما كان لنا أن نحلم بخطوات جديدة ..
عبر مراحل بناء وتأسيس الفكر النقدي في بلادي ، كان النقد والحركة النقدية خير داعم وميسر لأجيالنا لقراءة العمل الإبداعي وسبر أغواره و فهم دلالات عناضره وأدواته والمدارس الإبداعية التي ينتمي إليها ..
ولعل من المناسب التذكير بالتفاعلات النقدية والفكرية بين رموز الإبداع والفكر ( والتي بالمناسبة لم تكن كلها إيجابية ولكنها كانت تشير إلى وجود حياة وتفاعلات وتشابكات إيجابية ) ..
أذكر ــ على سبيل المثال ــ الحوار الذي أجراه الكاتب الصحفي " عبد العزيز صادق " مع المفكر " سلامة موسى " لمجلة " الرسالة الجديدة " في عددها الثاني الصادر في شهر مايو 1954 ، وكان يرأس تحريرها الكاتب " يوسف السباعي " وهو في منتصف الثلاثينات من عمره .. قال سلامة مُعرباً عن رأيه في أدباء العصر بشكل قاطع وحاد " لست أرى فيهم من يستحق لأنهم انفصلوا عن المجتمع الذي نعيشه ، وأضاف إن الأدب الحي يجب أن يرتبط بالواقع حاملاً همومه" .. وعندما سُأل موسى " هل قرأ لأدباء هذا العصر " قال " قرأت لهم جميعاً ولم أجد فيهم من يستحق أن يقرأ لهم ويتابعهم أولادنا أو حتى أحفادنا بعد عشرة أعوام " .. و
عن رأيه في " الأرض " لعبد الرحمن الشرقاوي و" زقاق المدق " لنجيب محفوظ و" أرض النفاق " ليوسف السباعي .. قال عن نجيب محفوظ أن ما يكتب يدل على نبوغ ، ولكن لا أدري هل سيبقى هذا النبوغ على مقاييس العصر القادم .. ويضيف موسى حين أذكر الأدباء الحاضرين لا يخطر ببالي هؤلاء الذين كانوا صبياناً ( يقصد الشرقاوي ومحفوظ والسباعي ) عندما كنا في سن الأربعين والخمسين ، أما السباعي فأنا أوثر أباه عليه !! ..
وتحت عنوان " كلام العيال " يرد السباعي في نفس الصفحة التي نُشر فيها الحوار مع سلامة موسى مخاطباً إياه " لقد عايرتني أولاً بصغر السن .. ولست أرى في ذلك عيباً اللهم إذا كان يرى السبق إلى الوجود مدعاة للتفاخر وهو شيء لا فضل له فيه ، ولا يمكن أن يكون سبباً في المفاضلة فهناك حمير كثيرون أكبر منك .. وهناك حمير أكثر أكبر مني .. ثم توالت ردود الفعل من كُتاب مصر في ذلك الحين فيقول العقاد " سلامة موسى .. لا هو أديب .. ولا هو عالم .. إنه لا يعبر إلا عن حقد .. وشعور بالفشل " أما توفيق الحكيم فكان رده " لا تقيموا وزناً لحكم سلامة موسى ، فقد انقطع عن القراءة منذ ربع قرن " .. ويصف كامل الشناوي سلامة موسى قائلاً " إنه حاقد موهوب .. يعبر بسهولة عن آراء غيره .. ولا يعرف من الأدب إلا عناوين الكتب وأسماء الأدباء " ..
نعم ، كنا لا نأملها منازلات ومبارزات غير لائقة على هذا النحو ، و لكن المقصود من الإشارة إليها ــ ورغم ما توحي إليه من وجود حوار متشدد بين أجيال الإبداع ــ أن هناك تواصل ومتابعات للإنتاج الأدبي والفني من جانب أهل الفكر والنقد ، وهو ما نفتقده الآن من متابعات مُعينة لشبابنا على القراءة النقدية للإبداعات المطروحة ، وأيضًا متابعة وتقييم الانتاج الإبداعي للشباب .