يبدو اختطاف ..
نعم , بالأمس تحدّثنا طويلاً , ذكرياتنا معاً أمام فُرن الخبيز , وكيف كنت استعجلها في شواء البطاطا , حتي أكون اول من يأخذ نصيبه منها , تحدّثنا كثيراً عن أبي , وكيف كان يتلعثم في الكلام وتدمع عيناه , عندما يتحدّث في التليفون الي أحد إخوته الذين استوطنوا بلاد أخري , بحثاً عن حال أفضل , أو حصلوا علي وظائف في مناطق نائية , وكيف كان يدسُّ في جيبه الحلوى بعد عودته من العمل ليلاً , حتى نفاجأ بها صباحاً , ويبدأ شجارنا مختلطاً بسعادة , حول تبديل واحدة بأخرى , كانت هي مَن يقوم بالترضية بيننا دون اعتراض , بالأمس ضحكنا كثيراً , تذكّرنا سقوط أختي من الطابق العلوي , ولولا رعاية الله لتهشّمت رأسها وتكسّرت عِظامها الصغيرة , وعن جدّتي التي أرهبت بمفردها حرامي الفراخ وجعلت منه
قط هارب علي حوائط الجيران .
بالأمس فقط , ومابين الأمس واليوم , كذر التراب في العيون , أصاب الكثيرين وأصابنا منه الكثير , لم تهتز أعمدة البيت جرّاء زلزال أو انهيارات أرضية , ولكنها تصدّعت أحجاره حجرًا حجرًا , رقدت أمّي وهي التي أرهقت الأحزان جرياً في ساحاتها ولم تحصل منها علي شئ , اعتدنا عليها قويّة شاهقة , تهدهد ثورة الأيام بابتسامة غضّة , فتورق ربيعاً بين جنبات البيت , نلتف حولها كدجاجاتها , نلقم من فمها أعذب الحكايات , واصدق الأحضان , اليوم نلتف حولها نئن من طأطأة رأسها لقسوة المرض , نتسابق دوماً في تلبية طلباتها بخفّة الطير , ( كورونا ) هذا المرض اللعين , أزاح غطاءاً عن مشاعر , توهّمنا طويلاً قوّتها , وهي التي كانت تتّكئ علي عصاً نخرها السوس , تركناها تصارع الموت في غرفة صغيرة , بَعد عَنَاء طويل ومداولات لا تخلو من هروب وخوف , تطوّعت أختي الصغرى بمرافقتها , كنت اخشي أن يجتمع الكل علي أن اكون من يصاحبها , فأنا الابن الأكبر , وقد مُدللاً في علاقتي بها , حتى أنّهم كانوا يقولون لها ( هو انتي ماخلِّفتيش غيره ) , أي حُب هذا الذي أتحدّث عنه , وأي تضحية سوف أتحدّث عنها غداً , وأنا هارب داخل قوقعة من الخوف , تكاد أن تقتلني .
أحجار ثقيلة ترقد فوق الصدر , لكن دقّات قلبي تصارعها دفعًا لأعلي , لا شهية للطعام , تتلاطم الساعات جريًا كموج البحر , تشبه بعضها بعضًا , لا ليل يفصلها ولا نهار , الانتظار وحده كفيل بقتل كل ما تبقي من حياة بداخلنا , رنّات الهاتف المحمول تؤرق في نغماتها أي إحساس بالهدوء , لعلها تحمل حُزنًا اكبر , أو انفراجة , لكن اشاراة الأطباء ونظراتهم لبعض , تنبئ عن حدث جلل ينتظرنا , صعود وهبوط مؤشر نبض القلب , يعني تراجع الحالة , وتدهورها , مؤشر نبض القلب يهبط كثيراً بشكل مفاجئ , تتصبب عرقاً في فراشها , أغمضت عينيها , كانسدال ستار علي نهاية فصول المسرحية , اجتمع الابطال المزيّفين لتحيّة الجمهور , ببكاء وعويل , بعدما تواري البطل الحقيقي خلف الكواليس .