( أفضل حكومة هي تلك التي يوجد فيها أقل عدد من الأشخاص عديمي الفائدة .. ) - فولتير -
فأي فواجع تلك التي تجعل ملايين الموظفين الفضائيين بلا فائدة .. منذ الطفولة قرانا وتعلمنا شعار : ( عملك شرفك فمن لا يعمل لا شرف له ) .. فما بالك بشرطي لا يحرس وطبيب لا يفحص ومعلم لا يَعلم ولا يُعلِم ورياضي بلا رياضة ورجل دين لا يصلي ولا يصوم .. وفنان بلا فنون و لا يفرق بين المسرح والمربح .. وخيال بلا خيل واطار بلا صورة .. ولحن بلا عزف وانشودة بلا إحساس وقبر بلا شاهد .. وشعب يموت تحت العناء ومشفيات بلا طب ولا دواء .. فيما يطارد الناس صوت خواء بلا رحمة او ادنى درجات الحياء ..
اغلب ما تناوله الدكتور علي الوردي رحمه الله في تاريخ العراق الحديث .. ركز على الظواهر الاجتماعية وتاثيراتها المتغلغلة بالمجتمع وانعكاساتها المحتملة على بنيته القيمية والسياسية وارتباطاتها الأمنية والاقتصادية والعلمية والأخلاقية ..
يقول هتلر فيما نسب اليه : ( من حسن حظ الحكام ان الناس لا يفكرون ) .. فيما ذهب أريك هوفر الى ابعد من ذلك حينما قال : ( الدعاية السياسية لا تخدع الناس ، لكنها تساعدهم على خداع أنفسهم ) ..
هنا نعيش حالة من الإحباط بموقف يشكل صدمة كبرى لمن يفكر بالإصلاح والثورة الحقيقية وليس المفتعلة والمخططة بالاقبية المظلمة .. بعيدا عن الواقع وخلف الحدود وبقيادات كارتونية مصنعة بعناية ودقة !
الدكتور الوردي منذ وقت مبكر في العراق الحديث .. تنبه الى نقطة مهمة جدا تمثلت في الاحداث التي اثرت على اخلاقيات المجتمع حتى اصبح رهين قيود الاجندات بصورة لم يعد يستطع التحكم في ذاته دون ان تكون هنالك يد وذراع خارجية مشوهة تنصب له الطاولات والخطوط العريضة كي يمارس حياته وفقا لتصوراتها وخططها الموضوعة بعد ان ضاعت بوصلة المجتمع الذاتية ..
في الالفية الثالثة ونتيجة لما تعرضت له البلاد العربية عامة والعراق خاصة بعد تدميره من قبل قوات الاحتلال الغربي تحت عنوان تحرير الكويت تارة وبدعوى اسقاط الدكتاتورية وتخليص الشعب وإشاعة الديمقراطية بتارات أخرى .. لاحظنا انتشار عدد من الظواهر كنقط دالة متاحة للدارس بجميع بلدان العرب التي زرناها او تعرفنا على واقعها من خلال قنوات التواصل وقدرته على نقل الحقائق والرصد والتتبع والقراءة والتحليل .
اشًرنا بعض الظواهر التي غزت الامة بشكل ملحوظ وقد كانت مرافقة او سابقة لدخول الدبابات او ما يسمى بالانتفاضات او الربيع التغييري .. ضمن خطط معدة موضوعة بعناية فائقة ... وقد حددناها بثلاثة ملفات يمكن لها ان تكون عنوانا او مظلة لبقية الملفات التي تندرج تحتها .. وقد تمثلت بما يلي : -
أولا :- ( انتشار الكوفيات والمقاهي والألعاب الالكترونية .. والملاهي والمنظمات شبه الحكومية والجمعيات الاهلية وتنظيم تجمعات وسفرات ودورات ونشاطات ثانوية .. جميعها تدرج وتيسر تحت هدف اشغال الأعضاء بعيدا عن قضايا الشعب وحاجات المجتمع بما لا يمت صلة للتزود المعرفي مع اطلاق الشهوات معززة بشهادات دكتوراه فخرية بصورة مخجلة مشوهة .. ذلك يجري بغطاء ثقافي مشوه تحت ذريعة وشعار حرية التعبير والترفيه النفسي بشكل يؤدي الى هروب الشباب من ضمير المجتمع وقيمه الحضارية .. مهرولا الى الملاهي والتوافه تائه وراميا نفسه في اتون المجهول .
ثانيا : التفسح فضلا عن التفسخ والانهاك الجسدي يحتاج الى طاقة غذائية .. وبما ان المشاوير بعيدة عن البيت والمطاعم غالية الثمن ... لذا يتم اللجوء للوجبات الجاهزة رخيصة مثل : الفلافل والكنتاكي والاسباكتي .. وغيرها مما تكتنز الدهون والامراض بما يتناسب مع المرسوم .. والعلة لا تقف عند حدود الجسد بل تتغلغل بالنفس المنقادة حد الاستسلام مما يلوث الأفكار والعقليات كي تهتز وتتحرك معها المباديء والقيم بصوة يصعب علاجها لتدخلنا مرحلة الانهاك عبر انفجار سلوكيات غير مالوفة .
ثالثا : الاعتلال الجسدي والنفسي يحتاج الى علاج وبما ان المشفيات الحكومية لا تكفي الاعداد الهائلة في ظل بنية متهالكة ونظام اداري فاسد ... يضطر معها اغلب المرضى الى الارتماء بحضن الصيدليات والممرضين ... او عطاريات الادوية – بشكل اصح – حيث تباع العقاقير باكداس وتنتشر ببسطيات .. لا رقابة بها ودون ادنى مقومات الارشاد الطبي والمراقبة الصحية .. الأهم ان توفر للمريض مسكناً سريعاً للالم مقابل مبلغ مادي زهيد قادر على دفعه .. علاج لا يعدو كونه تخديري يستفحل لاحقا ويتسفحل فيه المريض على المجتمع بانهيارات عصبية مستعصية .. اما خطورتها الأشد والافتك تتمثل بتلك الانفجارات المجتمعية التي تنقاد بصورة عمياء وفقا لكنترول موجه لا يمكن الوقوف بوجهه ولا الحد من خطورته ..
والله وحده هو الكفيل والمنقذ !!