ماذا لو أنك استيقظت فجأة فوجدت نفسك والمدينة التي تسكنها كلها عميان، عندها تنكشف لك الحقيقة كاملة، حقيقة رؤية الأحداث، والحقيقة المسكوت عنها، هذا ما نراه في رواية (العمى) للبرتغالي جوزيه ساراماغو، حيث أصاب العمى المدينة بأكملها، وهي خيط توتر صاعد بالأحداث نحو الحكاية السردية، ووراءها دلالات ضمنية مسكوت عنها هي مثير فلسفي.
يتوالد عنه تأويلات مختلفة؛ عبرت عنها زوجة الطبيب في نهاية الرواية «لا أعتقد أننا عمينا بل أعتقد أننا عميان يرون، بشرٌ عميان يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرون» في إشارة منها إلى أننا في الأصل عميان وأننا لم نصب بالعمى كما ظننا، وأن التحضر كذبة، أن الأخلاق البشرية والمبادئ الإنسانية أحيانا تكون عجزة أمام العوز البشري. لنخلص في النهاية إلى أن المعجزة الوحيدة التي نستطيع تحقيقها هي أن نستمر في العيش نحافظ على هشاشة الحياة من يوم إلى آخر، كما يقول ساراماغو.
ينسحب هذا التأويل على رواية انقطاعات الموت للكاتب نفسه؛ الحائز على جائزة نوبل سنة 1998م، وتعد روايته عن الموت قصيدة مدح في الموت، فماذا لو انعدم الموت في مدينة من المدن المتخيلة عند ساراماغو، وقد بدأت الرواية بداية لاهثة بأربع كلمات لاغير: وفي اليوم التالي لم يمت أحد.
وعليك أن تتصور المدينة التي لا يموت فيها أحد، وما عساه أن ينتج عن ذلك، وما الذي يمكن أن تقدمه الدولة الحديثة بكل حضارتها المتقدمة لجميع مؤسساتها إذا مرض أحد ولم يمت، ما مصير شركات التأمين، والبنوك، والنسيج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي عندما تتزايد الأعداد ولا يوجد ما يكفيهم ويسد احتياجاتهم، وماذا تصنع الدولة أمام العجائز ودور المسنين والمستشفيات وووو؟ وكلها أسئلة وجودية تعد معيارا للحكم على المدنية الحديثة، ومن هنا يطرح المؤلف رؤيته في أن الموت يحدث توازنا في الحياة، وأن الموت نعمة كبرى وليس نقمة، ولولاه لوقعت الدولة في مأزق شديد. عندها لن تقدر المدنية الحديثة على توفير احتياجات الأفراد من غذاء وتمريض ورعاية صحية وتأمين تام لكل مريض لا يموت.
وفي المشرق العربي يفاجئنا توفيق الحكيم بنهر الجنون، وهو نهر يصيب من يشرب منه بالجنون، وهي الفكرة نفسها التي تبناها سارماغو مع اختلاف الموضوع، الجنون ، الموت، العمى المدينة المجهولة، الأفكار والأسئلة الوجودية شديدة الخصوصية.
فماذا لو لم يفكر هؤلاء بهذه الطريقة العميقة لطرح أفكار جديدة غير قابلة للتجسيد الواقعي؟ فقط هي مثيرة لطرح الأسئلة، واختبار حقيقي لقدرة دولة المدنية الحديثة على تقديم حلول حقيقية لبعض مشاكلنا وأزماتنا(مشكلة وباء كورونا الأخيرة خدعة أم حقيقة).