قبل عام، كانت غيوم كثيرة قد تجمعت فى سماء العلاقات الدولية إثر قيام روسيا بعمليات حشد عسكرى واسعة النطاق على الحدود الشمالية لأوكرانيا. صاحبت عمليات التعبئة العسكرية حملات سياسية ودبلوماسية تطايرت فيها الاتهامات بين موسكو والعواصم الغربية، من الناحية الأولى كان رفضًا تامًّا لأى أمر يوحى باقتراب كييف من دخول حلف الأطلنطى، مما يشكل تهديدًا مباشرًا لروسيا؛ ومن الناحية الثانية أن روسيا تريد الاعتداء على دولة ذات سيادة وعضو فى الأمم المتحدة كما فعلت من قبل عندما ضمت أجزاء من جورجيا- أوستيا- فى عام ٢٠٠٨، وأجزاء أخرى من أوكرانيا- القرم- فى عام ٢٠١٤. ما جعل الأزمة متصاعدة أن المخابرات المركزية الأمريكية بدأت فى الإعلان عن نية روسيا فى غزو أوكرانيا، ولم يمضِ وقت حتى بدأت فى نشر خطط روسية لاقتحام الحدود الأمريكية.
ما جعل «الأزمة» تأخذ بُعدًا عالميًّا أن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين والصينى شى جين بينج وقعا بيانًا مشتركًا فى ٤ فبراير ٢٠٢٢ خلال الدورة الأوليمبية الشتوية فى بكين.
البيان كان صيحة مطالبة بمراجعة النظام الدولى، الذى استقر منذ نهاية الحرب الباردة، والقائم على الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة العظمى الوحيدة فى العالم، والتى يستند إليها الأمن والسلام والتعاون فى كوكب الأرض. وتضمنت الوثيقة أن «الديمقراطية» تمثل قيمة إنسانية عامة وليست امتيازًا لبعض الدول، ويمثل إحلالها والدفاع عنها مهمة مشتركة للمجتمع الدولى بأكمله. ولكن «لدى كل شعب الحق فى اختيار سُبُل إحلال الديمقراطية»، و«ليس من حق أحد سوى هذا الشعب فى تقييم مدى ديمقراطية دولته»، وأن «محاولات بعض الدول فرض معايير ديمقراطية خاصة بها على بلدان أخرى تمثل إساءة للديمقراطية، وتشكل خطرًا ملموسًا على السلام والاستقرار العالمييْن والإقليمييْن وتقوض النظام العالمى».
.. كانت الدعوة إلى التغيير تقوم على وجوب المشاركة مع دول العالم الأخرى، وبالطبع القوى القائدة الجديدة، التى منها روسيا، والتى ترى فى نفسها أنها لم تعد الاتحاد السوفيتى الذى انهار؛ والصين من ناحيتها تعبر عن قوة اقتصادية هائلة، فضلًا عن القوة العسكرية. الكلمة المفتاح فى البيان وما تلاه من تصريحات هى ضرورة معاملة الولايات المتحدة لقرينيها- روسيا والصين- باحترام، وليس بإعطاء الدروس فى الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وهكذا، بينما العالم يدخل إلى أزمة «جيوسياسية» تدور حول الأحلاف وتهديد الحدود، فإنه دخل إلى ساحة إعادة ترتيب النظام الدولى بالإعلان عن الصين كقوة عظمى ثالثة، ولكن بطريقة مختلفة عن تلك التى ظهر بها القطبان الآخران، فالولايات المتحدة أصبحت قوة عظمى بعد دخولها وانتصارها فى الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٧؛ الاتحاد السوفيتى أصبح قوة عظمى بعد مشاركته فى الانتصار فى الحرب العالمية الثانية ١٩٤٥. الصين أصبحت كذلك دون إطلاق طلقة واحدة، معلنة بذلك نوعًا جديدًا من القوى العظمى. وفى ظل هذه الظروف، نشبت الحرب الروسية الأوكرانية عندما عبرت القوات الروسية الحدود الأوكرانية فى ثلاثة محاور اعتبارًا من فجر ٢٤ فبراير ٢٠٢٢. المدهش هنا أن اشتعال الحرب أعلن فشل نظريتين من نظريات العلاقات الدولية. النظرية الأولى: هى توازن القوى، والتى تفيد بأنه فى حالة التوازن لا تنشأ الحرب، وعلى الرغم من التوازن الذى حدث بين روسيا والغرب نتيجة الردع النووى، فإن ذلك لم يكن مانعًا من نشوب الأزمة والحرب الأوكرانية. النظرية الثانية: هى الاعتماد المتبادل، بمعنى لو أن هناك تبادلًا بين أطراف دولية لا تنشأ الحرب لأنها تضر الطرفين. لكن الحرب نشأت وأدت إلى ضرر الطرفين (روسيا وأوكرانيا) والعالم كله.
على مدى عام، سارت الحرب طاحنة على جبهات متعددة، وتغير مسار الحرب عدة مرات، وبينما فشلت روسيا فى غزوها للعاصمة كييف، فإنها نجحت فى ضم أربع مقاطعات أوكرانية فى الشرق والجنوب، وتشكل فى مجموعها ٢٠٪ من الأراضى الأوكرانية. وعلى الجانب الآخر، فإن أوكرانيا، التى نجحت فى الدفاع عن عاصمتها والمحافظة على شخصيتها الدولية؛ بات عليها أن تقود هجومًا مضادًّا نجح فى تحرير عدد من المدن فى الشرق والجنوب أبقت صلتها مفتوحة مع البحر الأسود. وفى موازاة العمليات الحربية، فإن روسيا، التى دخلت الحرب لمنع اتساع حلف الأطلنطى، حققت من خلال العمل العسكرى أعلى درجات التضامن التى عرفها الحلف منذ وقت طويل، وفوق ذلك طلبت السويد وفنلندا المحايدتان الانضمام إلى الحلف. ونتيجة استطالة مدة الحرب، فإن التعبير الروسى بأن الحرب ما هى إلا «عملية عسكرية خاصة» أصبح حربًا شاملة تستدعى التعبئة العسكرية الشاملة، وتغيير القيادات العسكرية ثلاث مرات، وإقحام الميليشيات الروسية المعروفة باسم «فاجنر» إلى ساحة العمليات. الصمود الأوكرانى على الجانب المقابل أدى إلى تدمير الجزء الأعظم من الطاقة الاقتصادية الأوكرانية؛ وبعد عام من الحرب، فإن استقبال اللاجئين الأوكرانيين (حوالى ثمانية ملايين)، وتقديم العون العسكرى والمخابراتى، وضع ضغوطًا اقتصادية وسياسية على الدول الأوروبية والولايات المتحدة. وبعد عام من الحرب، فإنها أخذت شكل استنزاف متبادل، وجبهات عسكرية تشبه تلك التى كانت فى الحرب العالمية الأولى، مع اختلاف فى التكنولوجيا واتساع التدمير المتبادل للأهداف المدنية، وكلها داخل أوكرانيا.
وفى الحقيقة، فإنه لم تكن روسيا وأوكرانيا، أو روسيا والعالم الغربى، هى التى تحملت وحدها نتائج الحرب الضروس، وإنما العالم أجمع، الذى كان عليه دفع ثمن «العولمة»، التى لم تعد فاعلة، بينما النيران مشتعلة. العالم أجمع دفع نتيجة العمليات العسكرية، فى شكل تضاعف الاختلال الحادث منذ أزمة الكورونا فى سلاسل الإمداد العالمية، والاضطراب الواقع على صادرات الغذاء والطاقة وارتفاع أسعارهما معًا، ومع ارتفاع أسعار تأمين ونقل البضائع والسلع، فإن النظام الاقتصادى العالمى واجه موجات من التضخم غير المسبوق. جاءت العقوبات الاقتصادية التى أجرتها الدول الغربية على روسيا نوعًا من سحب الثقة من النظام الرأسمالى العالمى، الذى تمدد خلال العقود الأخيرة إلى جميع أنحاء المعمورة.
وما لا يقل خطورة عن ذلك أن نظام الأمم المتحدة العالمية لم يفشل فقط فى منع الحرب، وإنما أكثر من ذلك لم ينجح فى وقفها؛ وأصبحت الشكوك والهواجس و«عدم اليقين» غالبة على العلاقات الدولية، بينما رحى الحرب تبشر باستعدادات كبرى للحرب تجرى خلال الربيع المقبل. وبينما تعبئ روسيا مزيدًا من القوات بدأت باستدعاء ٣٠٠ ألف مقاتل، ويبدو أنها لن تنتهى باستدعاء ٥٠٠ ألف مقاتل آخر؛ فإن أوكرانيا على الجانب الآخر، ومن ورائها المعسكر الغربى، باتت جاهزة لاستقبال أسلحة «هجومية» مثل الدبابات، وهو ما جرى الاتفاق عليه، والطائرات التى لا تزال تحت البحث، ولكن السوابق تُفضى إلى أنها سوف تكون حاضرة ساعة هجوم الربيع. ويجرى كل ذلك، بينما الساحة الدبلوماسية هادئة وغير فاعلة، اللهم إلا فى ساحة استئناف تصدير القمح وتبادل بعض الأسرى، ووصفها «جوزيف ناى»، عالِم العلاقات الدولية الأمريكى، بأنها «الشتاء الدبلوماسى»، الذى يبدو أنه سوف يكون قارسًا.