د.محمد فتحي عبد العال يكتب : تاريخ حائر بين بان وآن.. الحلقة الأولى إعلانات زمان

د.محمد فتحي عبد العال يكتب : تاريخ حائر بين بان وآن.. الحلقة الأولى إعلانات زمان
د.محمد فتحي عبد العال يكتب : تاريخ حائر بين بان وآن.. الحلقة الأولى إعلانات زمان
 
 
ونبدأ بإعلانات المجال الطبي بحكم الانتماء و إعلانات صحيفة الأهرام منذ نشأتها الأولى  ومنها هذا الإعلان الماتع "إنني بحوله تعالى قد نلت الشهادات الطبية الديبلوماتية من مدرسة الطب بالقصر العيني وحضرت إلى هنا بوظيفة طبيب في البوسطة الخديوية وقد خصصت وقتا يوميا من الساعة 3 أفرنجية بعد الظهر لغاية الساعة 5 لمعالجة الفقراء من الأمراض الباطنية أو الخارجية مجانا في منزلي الكائن بربع المرحوم طنوس واكيم عند فرن الجرابة القديم وإنني مستعد أيضا لإجابة من يطلبني إلى منزله -سليم داود قناواتي "
ومن الأهرام أيضا عام 1890 إعلان طريف من طنطا عن طبيب للغلابة حيث يعلن الدكتور (ديمتري سورويني ) الطبي الجراح بأنه "أتى طنطا ليتعاطى صناعة الطب بها محل الدكتور قسطنديس وسيقوم بعمل عيادة المرضى في اجزاخانة الاتحاد بشارع البورصة (  لاحظ هنا أن الصيدلة لم تكن مفصولة عن الطب) مع معالجة الفقراء مجانا ويتعشم  في إقبال العموم عليه فيروا ما يسرهم ( من يأخذنا بآلة الزمن إلى هذا الزمان !!)".
من مدهشات الطب الحديث التي كانت يروج لها  وقتها مثلا عملية خلع الاسنان على  النغمات الموسيقية بعيادة الاستاذ الدكتور إبراهيم عزت بك الحائز للدكتوراه في الطب العام وطب الأسنان من جامعات باريس وأمريكا وحائز لدبلوم أمراض البلاد الحارة وعضو الجمعية الطبية والصحية بباريس .
ومن الطب إلى الصيدلة حيث أزمنة الأدوية العشبية والخلطات السحرية المعلومة المكونات والمجهولة التراكيب أيضا ومن ألطف ما حاق بصنوف هذه الإعلانات وتحديدا (حبوب الحياة) ببيروت عام 1913 ما جاء بكتاب (البيارتة حكايات أمثالهم ووقائع أيامهم لعبد اللطيف فاخوري ) من أنها تعيد الشباب فكم من شاعر تحسر على الشباب الذاهب وتقرحت أجفانه عليه وأنها "استعملت في جيوش أربع جمهوريات من جمهوريات أميريكا الجنوبية لأنها تشد همة الرجال وتزيد مقدرتهم على القتال وهي تعطي القوة لأنها تجعل طعامك يغذي جسمك" وينصح الدكتور روس الجمهور "بلف خيط على إصبعك لتتذكر أن تشتري زجاجة من حبوب الحياة للدكتور روس اليوم" !!
نأتي على ذكر عشبة الدكتور ايار Ayer's sarsaparilla وإعلان من صحيفة المؤيد عام 1896 بأن هذه العشبة تعمل على تقوية وتنقية الدم طاردا منه جراثيم العلل والأمراض ومجددا لكل مفقود في الدم  وبحسب المبالغات التي تحيط بهذه المنتجات عادة و التي كان بعضها مجهول التركيب في زمنه فالعشبة علاج شامل لما لا يقل عن 25 حالة صحية تشمل الوذمات وضعف السيدات والروماتيزم والألم العصبي والزهري ..نأتي إلى حبوب مقويات الأعصاب الخصوصية وبالأخص الجهاز التناسلي لاب جون والتي حملت صحيفة المؤيد إعلانها عام 1896 والطريف هو لونها المميز الأزرق (فياجرا الماضي).
أشهر هذه الإعلانات تلك الخاصة بمستحضر الزمبوك zam buk والذي يتبع شركة باير الألمانية حاليا وبحسب دعاية ذلك الزمان فهو أعظم دواء شاف للجلد في العالم والدواء السحري العجيب والشافي الأعظم الذي سيضيع كل آلامك وهو يلاشي جراثيم المعدة ويخفف الأورام ويمتص المادة القذرة وينمي جلدا صحيا ويستخدم في علاج الحروق والأكزيما والقوباء والبواسير والحمونيل وأي قطع أو جرح أو سلخ جلدي والكحة..
بمراجعة سريعة  لأرشيف لدي من أعداد الدنيا المصورة في أواخر العشرينات من القرن الماضي وجدت منتجات لا تزال إلى اليوم وإن حدث بها بعض الاختلافات الطفيفة في مسمياتها التجارية أو مكوناتها مثل اللزقة الأمريكية الأصلية الوحيدة ألكوكس لعلاج النزلات الصدرية ووجع الظهر وتصلب العضلات.وزيت السمك راديو مولت المحتوي على فيتاميني Aو D بلا رائحة ولا طعمة كمقو ومنبه للشهية ويشفى فقر الدم  ويفيد النساء العصبيات والبنات في سن البلوغ والأطفال الضعفاء.
ومن الأدوية إلى إعلانات الصيدليات وواحد من الإعلانات الطريفة في  صحيفة حمارة منيتي  1900 عن اجزاخانة الصحة "واتفرجي يا جارة على كلام الحمارة" وجاء الإعلان على النحو التالي " فما عليكم إلا الحضور أو التشريف بدستور ضوغري على اجزاخانة الصحة وتو لا يبقى عندكم لا برد ولا كحة ..الأدوية عال العال والحبوب شغل بسكال والأثمان زهيدة وأنواع الشفا عديدة" أعتقد أن الإعلان أقنعني بالذهاب وأنا أعاني من البرد وأنا أكتب هذه السطور.
ومن الإعلانات الطبية إلى الإعلانات التجارية وخاصة السجائر  ومروجيها من كبار الأدباء والسياسيين ونبدأ بالدكاترة زكي مبارك  وإعلان بروز اليوسف عام  1932 حمل صورته وهذا التقريظ لشخصه باعتباره "الفيلسوف البحاثة المتخرج من جامعات باريس والأديب المبتكر وأستاذ الآداب العربية بالجامعة الأمريكية " وتحتهما رسالة بخط يده عن دخان ألف ليلة كيريازي لف يد العامل المصري يقول فيها : "التدخين ضلال ولكنه يحتمل إذا قدم إليك عن أيد مصرية من شركة مثل شركة كريازي وقد استحليت دخانها ممثلا في سجاير ألف ليلة التي ذكرتني بما في ألف ليلة من ضلال وعفا الله عمن علمني التدخين " .  أيضا  نجد إعلان السياسي القبطي البارز مكرم باشا عبيد لشركة فهمي للسجائر وسجائر آمون قائلا : " إني أعاهد نفسي ألا أدخن غير هذه السجائر المصرية ". الطريف أن طه حسين والعقاد كانا مدخنين أيضا !!
سؤال على الهامش : ما الذى يجعل شركات السجائر تتجه إلى صفوة المجتمع من المفكرين والساسة للإعلان عن منتجاتهم ؟
في تقرير شديد الطرافة نشرته مجلة الأثنين والدنيا عام 1947 تحت عنوان " عظماؤنا والتدخين" استعرضت المجلة قائمة طويلة من ولع الساسة ورجال الحكم في مصر بالتدخين فالأمير يوسف كمال يدخن السيجار (ثلاثة يوميا وسعر السيجار جنيها مصريا واحدا) ومن هواة السيجار أيضا أحمد نجيب الهلالي باشا والذي يدخنه باستمرار ويقدمه لضيوفه..
من المخلصين للسجائر الوطنية كان حسين سري باشا والذي كان مولعا بالسجاير المصرية ويضعها في علبة مذهبة ويفضل الولاعة عن الكبريت في إشعالها والحال كذلك بالنسبة لإسماعيل باشا صدقي والذي كان لا يشرب من السيجارة سوى أربع أنفاس وتداعب المجلة صدقي باشا في أن ذلك قد يجذب أنظار حضرات لمامي السبارس إليه  أما فؤاد سراج الدين فكان من عاداته أن يشعل السيجارة ويتركها في فمه دون أن يدخنها حتى تنتهي فيشعل أخرى..
ومن باشوات مصر من كان يفضل السجائر المصرية ولكن مع أنواع أخرى أجنبية  مثل شريف صبري باشا والذي كان يستخدمها مع الأمريكية ومحمد حسين هيكل مع السجائر التركية وأحيانا يحلي بسيجارة أمريكاني من وقت لآخر ..
كما ترصد المجلة حالات الاسراف الشديد والإدمان على التدخين فعبد الرحمن عزام باشا كان يدخن أربع علب من السجائر المصرية (80 سيجارة) والدكتور علي إبراهيم باشا والذي نعتته المجلة بملك المدخنين فكان يدخن مالا يقل عن 100 سيجارة باليوم !!!
ولأننا نتحدث عن الانتصار للصناعة الوطنية فحريا بنا أن نعود لإعلان  شديد الطرافة عن الأحذية نشرته اللطائف المصورة عام 1923 يصور خواجه يجلس بجوار بضاعته المستوردة حزينا كاسف البال لعدم قدرته على منافسة جودة وسعر السلع المصرية بأوكازيون الفابريقة المصرية الكبرى بشارع بولاق نمرة 29 قائلا في حسرة " المصري عرف إزاي يخليني ارجع بالبضاعة تاني لأنه عامل شغل أحسن من أوروبا وثمن الجزمة أرخص من الجمرك اللي دفعته "
من فنون الدعاية الطريفة والدعابة مع المستهلكين خاصة الشباب ما نشرته اللطائف المصورة عام 1927 عن اعلان أولاد يعقوب كوهنكا عن لمبات فيليبس ارجنتا وتأثيرها المزدوج في زيادة حوادث الزواج فضلا عن توفير الحماية أثناء ساعات الألفة الليلية بين المخطوبين !!!حيث جاء بالاعلان رسالة من مخطوبة:"إنني لا أستعمل لمبات فيليبس أرجنتا في بيتي لمجرد الاعتراف بفضلها، بل من قبيل الاحتياط أيضا.. إذ لا يكفي أن يكون لنا منزل بل يجب المحافظة عليه، ففي ساعات الألفة الليلية الطويلة أي مساعد لنا سوى لمبات فيليبس أرجنتا".
نأتي إلى إعلان من مجلة الإثنين والدنيا عام 1940 ولمبات تونجسرام كريبتون و" اللمبة الرخيصة في بطنها دودة " فالإنسان الذي في بطنه الدودة يأكل كثيرا دون أن يثمر فيه الأكل كذلك المصباح الكهربائي الرخيص يلتهم التيار الكهربائي دون أن يعطي كمية أزيد من النور ..ويتسلل هذا الإعلان إلى جيوب المستهلكين من باب توفير فاتورة الكهرباء وحمايتهم من خسائر لا مبرر لها ...
المتابع للإعلانات قديما يلاحظ أن أغلب الصناعات التي تتمحور حولها الإعلانات كانت صناعات استهلاكية مثل السجائر والصابون مثل "سيجارة آمون.. السيجارة الوحيدة التي يرتاح صدرك لتدخينها تجد السير بأمتها  إلى طريق المجد الصناعي وهي دليل الوجاهة وعنوان القومية ..شركة سجائر محمود فهمي وشركاه"أو إعلان شركة سجاير الصعيد عن  سيجارة أم المصريين صفية زغلول "تأمل دخانها النقي الصافي كأنه مستمد من اسمها يسجل المجد الصناعي لبلادها"
ومن منطلق أنها تعبر عن رفعة الصناعة المصرية وازدهارها فكانت هذه الشركات تبادر لتبني حملات للصالح العام ومن ذلك مساهمة سجاير البستاني في الحملة ضد التبذير وذلك لأن التبذير جريمة واستجابة لطلب الحكومة المصرية من جميع منتجي السجاير تقليل حجم العلب وتخفيف وزنها  لتوفير الكرتون اللازم للبلاد فخرجت العبوات الجديدة  للشركة متمشية مع روح الإقتصاد ومع ذلك أنيقة وعملية وخفيفة!!.
اللافت هو المحاولات المبكرة لوضع أسس وأساليب الاعلان نصب أعين التجار والمستهلكين فنجد أول كتاب باللغة العربية حول أصول الاعلان وأساليبه تحت عنوان " طرق  الإعلان والنشر" لمليكه عريان أستاذ بكلية التجارة جامعة فؤاد الأول والحائزة على دبلوم التجارة العليا وعضو جمعية البيع الأهلية بلندن حيث يستعرض الكتاب موضوعات مثل  تاريخ موجز للإعلان ونظرية الإعلان من حيث أثره في توليد الرغبة وضرورة تكراره وأهمية الوقت كعامل للنجاح وفوائد الإعلان للمنتج والمستهلك وفي تحسين المنتجات وهي تنبه في مقدمة كتابها على الفارق الذي يحدثه الإعلان في الترويج للمنتجات بلغة بديعة فتقول " الإعلان للتجارة مفتاح العلا وللتاجر مشكاة الهدى فالتاجر الذي يعلن عن بيته حليفه النجاح في العمل والتاجر الذي لا يعلن عنه نصيبه الخسارة والفشل ..ذاك حي معلوم وهذا ميت مجهول"..
 
 
 
 
* د.محمد فتحي عبد العال
 
كاتب وباحث وروائي مصري