لعلنا مع رحيل الكاتب والسيناريست الرائد وحيد حامد منذ عام قد أيقنا قيمة أن يكون المبدع بقامة المفكر الوطني المثقف الواعي والمتفاعل بصدق مع قضايا مجتمعه والمستشرف لآفاق مستقبل البلاد والعباد عبر امتلاك الوعي الحصيف بمعطيات الحاضر..
نعم ، فالمفكر الحقيقي هو من يمنح ذاته القدر المناسب من الاستقلالية التي تكسبه الحرية في استخدام العقل والفرز والانتخاب والحذف والإضافة وأين يضع قلمه لتوجيه سهام فكره النقدي ، وكيف يدير معمل تجاربه الإبداعية ونظرياته الإبداعية المتجددة والمفيدة ، والتي يمكن أن تنقل مجتمعه من حال إلى حال ..
المفكر الحقيقي هو من لديه مشروع حقيقي وأهداف يسعى إلى تحقيقها بإصرار وإيمان وثقة في النتائج التي يتأكد له توافر معطياتها المحفزة والمشاهدات المؤكدة ليخرج في النهاية بمواقف ونتائج تشكل نظريات نافعة هادية ونافعة للأجيال الحاضرة والقادمة ..
ولأن الكاتب والسيناريست الكبير الراحل وحيد حامد ، احتشدت لديه كل تلك الخصائص المُشكلة لوجدان وشخصية المفكر والفيلسوف والباحث المدقق ، فإنني أرى أننا فقدنا وودعنا مفكرًا وفارسًا وطنيًا نبيلًا ، وأحد البناة المؤثرين في تشكيل العقل المصري والعربي عبر أطروحاته الإبداعية الدرامية وكتاباته الفكرية من خلال كل وسائط العمل الفني الدرامي السينمائي أو التليفزيوني ، فهو صاحب الفكر المستقل ، وكان لديه بحق مشروع تنويري لمناهضة الفكر الظلامى وملاحقتهم بالرد على ضلالاتهم ، وباستشواف بديع لنتائج مخططاتهم التدميرية والتحذير من تصاعد عملياتهم الخسيسة ، وقد استخدم كل أدوات أهل الفكر والإبداع للصياغة والتقديم على مسرح الوطن .. حيث مارس كتابة المقالات المتميزة المحاربة المجسدة لمشروعه في كشف الفساد والمفسدين وفضح مخططاتهم ، ومقاومة أهل الفتنة الدينية والتصدي لهم بشكل مباشر حتى في زمن حكمهم البلاد وبجسارة ووضوح وحنكة وخبرة ومخزون معلوماتي...
لقد كان يؤكد أن الجماعة تتعامل مع مصر "الوطن" على طريقة لصوص السيارات، يسرقونها ثم يفككونها قطعة قطعة، وفي تصريح له عام 2008 ، وحذر وواجه بقوة : " الآن نقول كان هناك وطن اسمه مصر.. هذه جماعة لا تعرف معنى الوطن ولا تنشغل به، فقط يخططون ويسعون لمصالحهم، ويكذبون من كبيرهم لصغيرهم بلا خجل، واصفين ما يفعلونه بـ"الكذب الحلال"، أو "الكذب المبارك"، ولديهم جرأة فريدة على التمسك بالباطل، وكل يوم يحكمون مصر فيه يجرّونها للخلف عشرات الخطوات، وتشعر وكأن هناك شيئًا مدبرًا لتدمير كل ملامح حضارتها وخصوصية ثقافتها. أنت أمام جماعة أو حكام لا ينصاعون للقانون ويعتدون عليه جهارًا نهارًا، ولديهم من صُناع الإفك أعداد هائلة، يحملون تبريرًا لكل شىء..." ..
لقد كان الكاتب والسيناريست والمفكر " وحيد حامد " بما كان يملكه من مواهب وقدرات استشرافية وإبداعية يرى بحس إنساني ووطني ما يراه متلقي إبداعاته أنه نبوءة صادقة في معظم الأحيان لما سيحدث فى مصر في عدد من أعماله الدرامية السينمائية والتليفزيونية .. ففى فيلمه الكوميدى الساخر "النوم فى العسل" على سبيل المثال ، قدم رؤية ــ حتى لو اتسمت ببعض المبالغة المفجرة للمفارقات الكوميدية الصارخة بحكم امتلاكة لمفردات صناعة الدراما الكوميدية ، فقد تناول ظاهرة الضعف الجنسي من خلال متابعة أسباب الجرائم الجنائية ، واكتشاف أن تلك الظاهرة باتت تشكل نسبة كبيرة من أسباب ارتكاب تلك الجرائم بوحشية وفقدان للعقل ..
تحكي دراما الفيلم كيف انتشر مرض غريب ومفاجئ فى كل أرجاء العاصمة ، وفى جميع الأحياء الشعبية والراقية فى الزمالك وفى السيدة عائشة .. وفى مصر الجديدة ، وفى الشرابية ، وفى المهندسين ، وإمبابة .. وفى السيدة زينب ، وفى منطقة المدبح .. فقد إندلعت المعارك بين الأزواج والزوجات وصلت إلى حد ضرب الروسيات والذبح والانتحار لأحد الأزواج ليلة الدخلة .. وكان سبب إنتحاره إنه "مابيعرفش" ..
ويبدو أن الأجهزة الأمنية إهتمت بهذه الحالة وفق دراما الفيلم ، ولكن مع التقليل من حجم الكارثة .. ففى حوار دار بين مدير الأمن ، ورئيس المباحث "عادل إمام" أبدى مدير الأمن اعتزازه بفحولته ، والسخرية من هذه الظاهرة .. وبينما تتصاعد دراما الفيلم نتابع ظاهرة بيع الوهم ومعها انتشار تجارة بيع بعض الأعشاب وحبوب التنشيط ، وتتضاعف الطوابير أمام دكاكين بائعى الوهم والدجالين ومن منهم من الانتهازيين لحالة تسيب بعض القنوات الخاصة نفذ بجرأة شديدة وخطرة عبر شاشات التلفاز..
ولأن في البدء كانت الكلمة في صناعة سينما الحقيقة ودراما الواقع على الشاشة الصغيرة ، والإبداع المتفجر برؤى مبهرة حتى عند تقديم كوميديا هزلية ، فالأمر عند وحيد حامد محمل برؤى فلسفية واجتماعية محورها قضايا العجز الإنساني والتراجع الحضاري والقهر الاجتماعي في أزمنة النوائب ..
لقد رصد وحيد حامد حالة التفاوت الطبقي التي تصاعدت بعد قرار الانفتاح الاقتصادي بدون سياسات منطقية ترتب وتمهد لحالة التحول من النهج الاشتراكي المغلق والانتقال من دولة راعية مالكة لكل مقدرات الانتاج وأدواته والمواطن الموظف إلى دولة انفتاحية مرحبة باقتصاد رأسمالي بدون ترتيبات تدريجية تنظم وتشرع لتلك الحالة من التحول مما ساهم في ظهور طبقة من الانتهازيين وحيتان التجارة العاصفة بحقوق الغلابة والبسطاء .. وأعتقد أنه كان يقدر أن لا التأميم كان صائبًا ولا الخصخصة كانت هي الحل !!
وعليه ، كانت الدراما الكوميدية الساخرة بكل أدواتها وبكل اقتدار وتمكن المبدع وحيد حامد هي الأنسب كنهج تم النسيج عليه بمهارة ودون وضع إطارات جامدة ، فقد تنوعت أشكال ذلك النسيج البديع والبناء من عمل إلى أخر في البناء وفي تصوره لبناء مجتمع أحداث العمل الفني ..إطارات تخيلية وأخرى واقعية وثالثة كاريكاتورية بديعة تتلامس مع أوجاع الناس وتناقش طموحاتهم ...ودائمًا كان قادرًا على إحداث الدهشة عند المتلقي بكل مستوياته ..