- هذا هو السؤال الرابح الآن ، والذي كنت انتظرك من أجله .
قلت بدهشة:
- أعلم أنك كنت تعلم بميعاد حضوري من أجل الرحيل من الدنيا، والآن تدهشني بقولك بأنك تنتظرني من أجل شيء آخر.
- كل شيء مرتب يا ابنتي، والقوة التي ترتبه مهما فكر البشر لن يصل إلى سرها. قوة بإشارة من إصبعها تحرك الكون بأكمله وما عليه، لكن بني آدم، تَجبر بقوته الآن وأعلن معصيته، لم يفهم أن قوته يمكن أن تسحق كذرات الغبار في لحيظة، تمرد على نفسه وكره ذاته، كره الآدمية التي أنعم بها الله عليه، وها أنت ترين الآن، اّدميون يحاربون آدميين مثلهم، أليس هذا محاربة للذات الإلهية!!
- كنت أظن أن دوري اقتصر على دور عزرائيل، ولأجل غير مسمى، فهل هناك دور آخر أُضيف إلى جانب هذا الدور؟!
- بالتأكيد يا ابنتي فانصتي جيداً، لم يبق لي سوى بضع دقائق، وهذا الميعاد لا يمكن التلاعب فيه وأنت رأيت ما حدث لعزرائيل نتيجة تهاونه لمرة واحدة
- منصتة يا سيدي بكل حواسي.
- حسناً، بعد أن تنتهي من مهمتك معي ، ستبحثين عن عالم اسمه " جيرارد " ، لو نظرتي في القائمة التي سلمها الغريب لك ستجدين اسمه مدوناً بها وأمامه الساعة التي يجب أن يرحل فيها ، انظري القائمة ستجدين أنه لا يزال على رحيله أربعة وعشرون ساعة ، هذا العالم يجري أبحاثه على دواء لو نجح في استنباطه سينقذ ملايين من البشر من وباء سيأتي على العالم قريباً ، وباء لا يميت لكنه يحول من يصيبه إلى كائن غريب لا هو آدمي ولا هو حيوان ، تصرفاته وسلوكياته منزوعة العقل . "جيرارد" اكتشف هذا الوباء في بعض القبائل التي تسكن مجاهل قارة إفريقيا ، أدرك خطورته بعد دراسة على أفراد أصيبوا به ووجد أنهم تحولوا إلى كائنات شديدة الخطورة على من حولهم ، بعضهم كان يأكل أطفاله بمجرد ولادتهم ، والبعض يشعل في نفسه النيران ويعدو داخل الغابات ليشعل الغابة كلها ، العجيب أنه يطلق ضحكاته والنيران تلتهم جسده والاشجار تشتعل من حوله ، إلى أن يحترق ويتحول لكتلة متفحمه ، والبعض يقدم نفسه طائعاً فريسة لوحوش الغابة ، أعراض كثيرة غير محكومة بأي عقل لمن يصيبه فايروس المرض الذي له قدرة شديدة على الانتشار ، خاصة الآن بعد أن أصبحت التنقلات سهلة بين ربوع العالم . استطاع “جيرارد" أن يحدد الفايروس وحصل على عينات من المصابين. عاد ليجري أبحاثه عليه، حتى الآن تمكن تقريباً من النجاح بنسبة كبيرة، لا ينقصه غير الخطوة الأخيرة ، لكن للأسف "جيرارد" لا يعلم أنه لم يبق له في الحياة سوى سويعات قليلة ، وقد يرحل دون أن يصل لهذه الخطوة ، مسئوليتك يا ابنتي كبيرة ، يجب أن تذهبي إليه وتدفعيه خلال هذه الساعات للوصول للعقار المضاد لهذا المرض .
- لم أكن أعلم يا سيدي أن وظيفتي مزدوجة ومتضادة ، إنهاء الحياة والسعي لإنقاذ البعض من الهلاك بمرض لعين ، لم يخبرني الغريب سوى بوظيفة عزرائيل .
- الغريب يا ابنتي مسئوليته محددة وهي معاونتك على القيام بوظيفة عزرائيل، وما ستقومين به مع العالم" جيرارد" شيئا آخر ولا يتعارض مع وظيفتك لأنك ستنهين حياته في الوقت المحدد.
- ما يدهشني أن حياتي كان المفروض لها أن تنتهي في حادثة الطائرة، فكيف توكل لي هذه المهام الآن!!. - أليس من الجائز أن تكون هذه فرصة أنعم بها عليك الخالق لتبدأي حياة جديدة بعيدة عن حياتك السابقة الممتلئة بالخطيئة لتنعمي بنهاية سعيدة؟!
- أتمنى ذلك من قلبي، لكن كيف سأصل للعالم "جيرارد"؟
- كما وصلت لي، لكن ستذهبين إليه الآن وفوراً لتقومي بمهمتك في دفعه لمعمله قبل أن تأتي ساعته، وهذا موكول على قدرتك، وأرجو لك النجاح في هذه المهمة - لقد قلت لي أن العالم "جيرارد" له سنوات يجري أبحاثه على هذا المرض، وينقصه الخطوة الأخيرة، وبالتأكيد هي أهم خطوة ، فكيف سيتمكن من إتمامها في هذه السويعات القليلة !
ابتسم الزاهد قائلاً:
- هذا هو المهم في الموضوع يا بنتي ، ولهذا أنت جئت مبكرة ساعة عن موعد رحيلي ، وأنا كنت انتظرك ، وأرجو أن تنتبهي جيداً ، عندما تخرجين من هنا ، سيري في الاتجاه المضاد حوالي عشر دقائق ، ستجدين شجرة ضخمة ، لا يوجد غيرها في كل المنطقة حولك ، اقتربي منها ستجدين داخل جزعها تجويفا كبيرا ، مدي يدك لداخله ، ستجدين قطعة خشبية ، محفور عليها بعض الرموز والمعادلات ، احفظيها معك جيداً وسلميها للعالم جيرارد ، لكن هناك معادلة صغيرة لم أتمكن من تدوينها لأني توصلت إليها قبل مجيئك بدقائق ، بدونها لن يصل لأي نتيجة ، سأكررها على سمعك وأرجو أن تحفظيها ، وبمجرد وصولك ، اسمعيها للعالم جيرارد.
- هل أنتالذي حفرت هذه المعادلات على قطعة الخشب يا سيدي.
ربت على ظهرها مبتسما وقال:
_ إرضاء لفضولك سأجيبك بنعم.
نظرة افصحت عما بداخلها من دهشة وقالت:
- وكيف وصلت لهذه المعادلات، وأنت في هذا الجبل، لا معمل ولا أدوات ، بل كيف تم الموضوع برمته .
ابتسم الزاهد ابتسامة جميلة وربت فوق ظهرها ربتات حانية قائلاً:
- سينقذني الوقت من فضولك.
نظرت في ساعتها واغرورقت عيناها بالدموع، لم تبق سوى ثوان ليرحل الزاهد،
أمسكت يده تقبلها وتمطرها بدموع غزيرة.
قال وابتسامة جميلة فوق شفتيه:
- لماذا تحزنين، أنها اللحظة التي كنت أنتظرها ، لحظة النجاح بالنسبة لي.
لم يسعفها الوقت للإجابة واتجهت مقدمة العصا الخضراء نحوه، فاضت روحه ولا تزال الابتسامة الجميلة فوق شفتيه . نهضت تجفف دموعها الحائرة، هل تترك الرجل كما هو ؟ أم تحاول وحيدة أن تعد له مقره الأخير؟ لكن هذا سيستلزم وقت هي أولى به ، لتذهب إلى العالم "جيرارد" ، من أجل المهمة الإنسانية المكلفة بها . خرجت خارج الكهف تحاول أن تضع حداً لحيرتها، فوجئت بشاب في مقتبل العمر يقف خارجه ، وكأنه ينتظر خروجها ، معه وعاء كبير ممتلئ بالماء ، وثوب أبيض مطوي بعناية فوق كتفه ، من أين أتى لا تعلم ، حاولت أن تطفأ فضولها ، ابتسم الشاب وقبل أن تعرب عن هذا الفضول بأسئلة قد لا تكون لها إجابة قال:
-اذهبي بسلام لإتمام مهمتك، سأتكفل أنا بكل شيء، هيا.. ألستم تقولون أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، أصدق تطبيق لهذا المثل هو موقفك الآن، امضي سريعاً لإنجاز مهمتك ، أحست بأن الشاب يقطع عليها الطريق ، لأي محاولة لأسئلة لن تجد لها إجابة.
قال الغريب الذي كان ينصت إليها مندهشاً:
- وبالتأكيد مضيتِ سريعاً لإحضار اللوح الخشبي من جوف الشجرة.
- نعم.. هذا ما حدث، لكن ألم تكن تعلم عن هذه الواقعة؟!
- المرة الأولى التي أعلم بها من حديثك الآن.
قالت مندهشة:
- وكيف تريدني أن أصدق !!، وأنت تملك قدرة فائقة، حتى الآن أتذكر النيران التي أفحمت قدمي في الغابة، ثم عادت في لحظات إلى ما كانت عليه ، دون أدنى أثر حتى لمجرد حرق صغير .
- ما ترينه معي، ليس سوى قدرة الخالق، هو الذي يدعها في داخلي، لكن مسئوليتي محددة ، وهي معاونتك على أداء وظيفة عزرائيل فقط.
تذكرت قول الزاهد عندما سألته إن كان الغريب على علم بهذه المهمة، وأجابها نفس الإجابة ، بأن مسئولية الغريب محدودة لمعاونتها في مهمتها لاقتطاف الأرواح فقط ، اعتذرت ، ابتسم وربت فوق يدها ، قائلاً :
- التمس لك العذر دائماً، فأنت حتى بعد هذه القدرات العظيمة التي وضعها الخالق بداخلك، لا زلت بشراً ، والبشر معروفون بضعفاتهم وشكوكهم دائماً . . والآن أكملي لأنك وضعت بداخلي فضول البشر واشتاق أن أسمع ما تم في موضوع العالم جيرارد.
- بالفعل أحضرت سريعاً اللوح الخشبي من جوف الشجرة، ثم وجهت العصا نحو قائمة الأسماء مشيرة إلى اسم العالم جيرارد، وفي لحظات كنت أقف أمامه. لكن المفاجأة المذهلة كانت في المكان الذي عثرت فيه عليه، لم يكن سوى غرفة الإنعاش داخل إحدى المستشفيات، كان بالحجرة عدة أطباء وبعض العاملات بالتمريض ، في محاولة لإعادة النبض إلى قلبه الذي توقفت نبضاته ، لكن شاشة الجهاز التي تشير إلى حركة القلب ، ظلت على حالها ، معلنة أنه لا أمل في صحوته . توقف الاطباء عن محاولاتهم معلنين وفاة العالم جيرارد، أوصوا العاملات بالتمريض برفع الأجهزة التي تم توصيلها بجسده التي ضخ المحاليل الغذائية إلى جسده والبعض يضخ الأكسجين إلى أنفه والتي لم تعد لها فائدة . كادت سيلفيا أن تصيح وتكشف عن نفسها بأنه من المؤكد أن هناك خطأ ما، كيف يموت العالم جيرارد !!، من الذي أخذ روحه، عزرائيل هو المسئول عن هذا العمل ، وهي عزرائيل ، من المستحيل أن يكون هناك عزرائيل آخر . عزرائيل الحقيقي مسجون في جوف سمكة القرش، ليس من المعقول أن يكون خرج من سجنه دون علمها، عصا اقتطاف الأرواح والقائمة المدون به اسماء الذين عليهم الدور لا يزالا معها، موعد النهاية للعالم جيرارد لم يحن بعد كما هو مدوناً بالكشف، إنها ليست مشكلة واحدة. الزاهد أوصاها أن تذهب إلى العالم جيرارد وتسلمه الخطوة الأخيرة التي ستمكنه من اتمام مصله الذي يعالج الفايروس، من المستحيل أن يكون الزاهد قد أخطأ، قال لها عندما ذهبت إليه لتنهي حياته أنه كان ينتظرها من أجل هذه المهمة، هل تلجأ إلى الغريب؟، لكن كيف تصل إليه، هو الذي يأتي إليها، لم يخبرها بكيفية الاتصال به عندما تحتاجه. دوامة من الحيرة تدور بعقلها، على غير توقع، فتح العالم جيرارد عينيه، قال بصوت مرتفع، ماذا يحدث هنا؟ سارعت بوضع العصا التي تخفيها داخل جيبها، ازدادت دهشة العالم جيرارد، وهو يشاهدها أمامه فجأة، هز رأسه عدة مرات وهو يظن أن الدوار هو السبب، حملقت عيناه في وجهها قائلاً:
- من أنت، لم أرك من قبل؟!
وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة