وحياة العيش والملح،هكذا كان يٌقسم المصريون فى الماضى، فى الأوساط الشعبية المصرية، وكان هذا القسم بمثابة مقولة مأثورة ذات دِلالات عميقة، فرغيف الخبزٌ بالنسبة للمصرى هو أساس الحياة لأنه الغذاء الأساسي الذى يمكن أن يقتات به رغم أنه أقل القليل .كما ان المِلح عنصراً أساسياً فى حفظ توازن الجسم وفى تحصينه من العين والسحر والطاقات السلبية، فكان المصرى فى المواقف التى تستدعى قسم غليظ يٌقسّم الرغيف إلى قسمين ويضعهما على عينية قائلاً(وحياة النعمة دى على عنيا) وتعنى أنه إن حنث فى قسمة بالنعمة وهى رغيف الخبر يٌصاب بالعمى، لانه خان حق الطعام ممثلاً فى أهم صوره وعناصره (الخبز والملح).حيث كان تناول الطعام من صحن واحد واقتسام الرغيف بين الناس له معنى مقدس لأنه يزيد الترابط واللٌحمة الاجتماعية،ويربط بينهم بروابط تفرض عليهم قيم التضامن والتكافل فى الأفراح والأطراح ، فكان الجار لا تهنىء له لقمة إلا إذا تقاسمها مع جاره المسلم،والمسيحى لذا كان الصحن الدّوار بين الجيران بمثابة ميثاق محبة واٌلفة بينهم، حيث كانت المائدة المصرية لا بد أن تحمل صحنا خاص بالجيران لذا كانت الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع ترقى إلى مصاف العلاقات القرابية،وأكثر.لأن الجار بحكم الجوار كان أقرب من الأهل والعائلة وأول من يتكاتف ويقف مع جارة فى السراء، والضراء.وهذا أمر طبيعى فى ظل هذا الشعار الذى يحمل الكثير من المضامين الإنسانية والأخلاقية، كما كانت طبيعة المساكن فى الأماكن الشعبية تفرض على الجيران هذا المستوى من التعامل والتفاعل فيما بينهم،حتى أنّ النسوة كٌن يٌعددن الطعام بشكل جماعى ويتعاونّ مع بعضهن البعض فى طهيه، وكانت تلك التعاملات اليومية التى قد يراها البعض أمور سطحية أو هامشية هى أساس الإخاء والصفاء، كما كان التنكر للعيش والملح بمثابة خيانة عظمى وكبيرة بالمجتمع المصرى كان يتم التعبير عن ذلك بمقولة(ده ماكانش عيش وملح، يا خاين العيش والملح) لماذا ؟ لأن الطعام هنا يؤدي وظيفته بصفته نسقاً من أنساق التواصل البشريّ؛ وفى وقتنا الحالى أصبح أفراد الاسرة لا تجمعهم مائدة لإختلاف مواعيد العودة للمنزل ولاختلاف نمط الوجبة الغذائية وصورتها فلم تعد وجبات الطعام تجمع أفراد العائلة كما كان يحدث بالماضى، وتم اختزال الثلاث وجبات الرئيسية الى وجبتين فطور وغذاء فى ظل إنغماس المرأة فى سوق العمل، وميادين العمل المجتمعى فأصبح هناك اعتماد على الوجبات السريعه والجاهزة ، ففقدت الاسرة إجتماعها على طاولة الطعام والذى أصبح مرهونا بالعطلات الرسمية فغابت أجواء المحبة والتسامر وتواصل الحوار فيما بينهم على مائدة الطعام بل اصبح البعض ياكل بيده ويحمل بالاخرى هاتفه الجوال مما أدى بدوره إلى إضعاف العلاقات الإجتماعية بين أفراد الاسرة والمجتمع لما لا والجميع يركض بلا توقف من أجل لقمة العيش. فمتى يعود التلاحم بين أفراد المجتمع؟،وهل فى الامكان إحياء ثقافتنا القديمة بأصالتها التى جعلت من تداول الطعام فيما بيننا سبباً كافياً لمحبتنا وإخلاصنا بعضنا البعض ؟!، أم كل هذا ولىّ وأندثر....... ولم يبقى لنا منه سوى الذكرى البعيدة السعيدة؟!.
* بقلم .د. سهام عبد الباقى محمد
باحثة أنثروبولوجية- كلية الدراسات الأفريقية العليا- جامعة القاهرة