في 5 مايو 1880 ولد جورج أبيض في فندق صغير يملكه والده بمدينة بيروت لبنان، وكان أبوه هو إلياس وأمه جوليا وجده لأبوه هو "جرجس حاتوني" ، وكان مشهوداً له في قريته "دلبتا" بطيبة القلب ونقاء السريرة وكان يمتلك "جرجس حاتوني" منزلاً وفندقين ببيروت تعمد أن تكون ألوانهم باللون الأبيض لذا أطلق عليه الناس جرجس ابيض لبياض قلبه وبياض أملاكه، ومن ثم – عرفاً – أصبح جورج معروفاً بجورج أبيض وليس جورج حاتوني في طفولته نسبة لهذا اللقب الذي أطلقه أهل بلدته على جده وأبيه.
في آخر عام له وهو في الباكالوريا ولإتقانه اللغة الفرنسية وحفظه الكثير من دواوين الشعراء العرب رشحته المدرسة أن يقوم بدور البطولة في المسرحية الفرنسية " القروش الحمراء " وبالفعل قام بالدور على أعظم ما يكون الأداء لدرجة أن الممثل الفرنسي المشهور بذلك الوقت " جان فريج " وكان حاضراً لمشاهدة المسرحية وهو الذي قام بدور البطولة في ذات المسرحية على أكبر مسارح باريس أثنى على جورج أبيض وعلى أدائه وتنبا له بمستقبل عظيم في مجال التمثيل إن هو قرر أن ينتهج حرفة التمثيل وهو الأمر الذي قفز في عقل جورج أبيض ولم يفارق خياله بل ولم يفارق طموحه ولكن كيف وهو الذي سيتخرج بعد أيام ليلتحق بوظيفة " تلغرافجي " في شركة سكك الحديد الفرنسية ببيروت بمرتب خمسة جنيهات يحلم به أي شاب وأهل هذا الشاب خاصة وهو من عائلة محافظة إلى حد بعيد.
لم يمكث بوظيفته ببيروت إلا بضعة أشهر ثم تقرر نقله لبلدة خارج بيروت وتبعد عنها مسافة تستغرق يوماً بعيداً عن الأهل والأصدقاء والعشيرة فقدم استقالته.
قرر جورج أبيض بعد الاستقالة أن يهاجر إلى عمه في مصر رغم معارضة أمه وتهديدها له إن فعلها ستحرمه من الميراث، ولكن حبه للتمثيل وتحفيز الممثل الفرنسي "جان فريج " له كان له أبغ الأثر في اصراره على السفر لمصر خاصة وأن مصر هي قبلة وحضارة وهاجر لمصر ولم يكن يتلك سوى جنيهان من الذهب فقط لا غير، حين رست به السفينة في ميناء الإسكندرية أعطاهما لسائق الحنطور الذي اوصله لمنزل عمه من شدة عدم تصديقه أنه قد وطأت قدماه مصر أم الدنيا.
التقى بعمه في مصر وعمل معه في تجارته ولكنه كان صاحب كبرياء ويريد أن يكون له مورد رزق آخر بعيداً عن ان يتحمل عمه مسئوليته، فتقدم لامتحان أعلنت عنه سكك حديد مصر، واجتاز الامتحان وكان الأول على اقرانه وكانت وظيفة ناظر محطة سيدي جابر بالإسكندرية من نصيبه، وفي أول اسبوع عمل له جاءه تلغراف بأن الخديوي .
في أواخر شهر يونيو 1899م وجد جورج أبيض اثنان من قساوسة كلية سانت كاترين التي صار اسمها حالياً كلية سان مارك يبحثان عنه، وحينما التقى بهما عرف أنهما كانا في زيارة بيروت لبنان وهناك زارا مدرسة الحكمة التي تخرج منها جورج قبل عام ونصف وأن المدرسين فيها أخبروهما عن براعته في التمثيل وأنهم يعلمون أيضا أنه صار ناظرا لمحطة سيدي جابر بالإسكندرية وأنهما – أي القسيسان – يريدان منه أن يشاركهما إخراج نفس المسرحية التي قام فيها بدور البطولة وهي مسرحية القروش الحمراء وأن يقوم أيضاً بأداء دور البطولة فيها كما أداه في مدرسة الحكمة ببيروت، فيوافق جورج وهو في غاية الدهشة من عجائب قدره، وبعد نهاية العرض يشيد به قنصل فرنسا الذي كان من بين الحضور ويقول له أن مكانه ليس بالسكة الحديد وإنما بأكبر مسارح باريس، فتختمر الفكرة في رأسه ويقرر مراسلة الخديوي عباس حلمي الثاني بغرض إرساله لبعثة إلى فرنسا لدراسة المسرح الذي هو أحد روافد حضارة أي أمة، لكن الخديو لم يرد على رسالته لمدة ستة أشهر فيقرر جورج أبيض أن يرسل رسالة أخرى ولكنها استغرقت عامين كاملين ولم يرد عليها الخديوي أيضاً.
كان جورج أبيض قد صار عضواً في نادي كلية سان مارك وصار يشارك في كل عروض الكلية ويزيد في كل يوم حلم سفره لفرنسا لدراسة المسرح وأن يرد الخديوي على خطاباته حتى هداه تفكيره أن يرسل خطاباً آخر للخديوي يدعوه فيه لحضور مسرحية " برج نل " التي تم عرضها على أكبر مسارح فرنسا لمدة ثمانمائة ليلة عرض وأرفق مع دعوة الخديوي صورة له بالزي الرسمي والمفاجأة .. وافق الخديوي على حضور العرض فقررت كلية سان مارك أن تكتب على التذاكر أنه عرضاً تحت رعاية الخديوي ولم يصدق جورج أبيض نفسه.
في هذه الاثناء عام 1904م أقال الخديوي عباس حلمي الثاني رئيس الوزراء مصطفى فهمي باشا الذي كان لا يحبه المصريون فرحب الشعب بهذا القرار وخرجوا يهتفون بحياة الخديوي مما أعتبره الخديوي نصراً شخصياً له وأن هذا النصر أتي بعد معرفته بجورج أبيض الذي أعتبره ايقونة حظه وبعد أن شاهده في مسرحية " برج نل " التي قام فيها بالتمثيل ببراعة وافق على بعثه إلى فرنسا لدراسة المسرح مع منحة مالية ثمانية جنيهات في الشهر الأمر الذي جعل روح جورج أبيض تحلق في السماء من فرط السعادة.
وهبط جورج أبيض باريس في شهر أغسطس 1904م ولكنه في فرنسا لم يوفق في امتحان القبول للمسرح وقال له الممتحن الفرنسي أن صوته لا يصلح لفن التمثيل التراجيدي وعليه أن يعود من حيث أتي لبلاده، صُدم جورج أبيض ولكنه مع هذه الصدمة يأبى قبول الهزيمة ويجمع كل من تم رفضهم في امتحان القبول بمعهد التمثيل بعدما اشترى كتابا في فن الإلقاء وقرر بهم أن يتدربوا جميعاً في غابة بولونيا على فن الإلقاء المسرحي لمدة عام كامل ليدخلوا بعده اختبار معهد التمثيل مرة أخرى والذي نجح فيه جورج أبيض نجاحاً باهراً أدهش القائمين فيه على الاختبار واندهشوا من اصرار هذا الشاب في تحويل الهزيمة إلى نصر واليأس إلى حياة، واستمر جورج يدرس فنون المسرح لمدة خمس سنوات عاد بعدها إلى مصر في شهر إبريل 1910م منتصراً ومعه فرقة كاملة فرنسية ألفها من أصدقائه بالمعهد ليقدم بها عروضه على مسرح الأوبرا الخديوية، تستقبله جماهير عريضة من مثقفي مصر في ميناء الإسكندرية وعلى رأسهم عمه الذي هدده بالقتل إن ترك وظيفة ناظر محطة سيدي جابر ووالدته التي كانت قد حرمته من الميراث وأعلنت غضبها عليه وهي اليوم راضية عنه كل الرضا فالنجاح له آباء لابد لهممن الظهور أما الفشل فله أب واحد فاشل يتجنب الظهور حتى أمام المرآة.
كانت أول ليلة مسرحية اقامتها فرقة جورج أبيض بمسرح الأوبرا يوم 12 إبريل 1910م بعد يومين فقط من وصوله وكانت أول مسرحية قدمتها الفرقة هي مسرحية " هوراس " للكاتب الفرنسي "كورنيل" والمسرحية الثانية التي قدمتها الفرقة يوم 13 إبريل هي " شارل السادس " للكاتب اسكندر ديماس " وكانتا باللغة الفرنسية وفي أول ليلة عرض حضر الخديوي وكبار رجال الدولة ونخبة من رجالات السفارة الفرنسية ومجموعة كبيرة من المثقفين المصريين ولكن على رأس كل هؤلاء حضر وزير المعارف " سعد زغلول " وزوجته السيدة صفية اللذان راقهما هذا الحدث الكبير وإن كان " سعد زغلول " يري بحسه الوطني شيئاً يجب استثماره لمصلحة مصر الوطنية.
بعد أيام من إقامة العروض المسرحية فوجئ "جورج أبيض" بأن " سعد زغلول " يستدعيه في مكتبة لأمر هام وحينما التقى به وجد أن سعد زغلول يناقشه في الصراع الدائر بينه وبين الإنجليز الذين يفرضون على الحكومة المصرية تدريس جميع المناهج باللغة الإنجليزية في المدارس المصرية وعلى رأسها التاريخ والجغرافيا والرياضيات والعلوم، وأن هذا الصراع زادت حدته في الآونة الأخيرة إذ يرفض الإنجليز رفضاً قاطعاً تعريب المناهج وهو – أي سعد زغلول – يؤمن أن رسالته أن تصبح أغلب المناهج باللغة العربية، واستكمالاً لرسالته التي يصبو لتحقيقها اراد أن يستدعى " جورج ابيض " ليقول له:
"إن مصر والمصريين يفخرون بالنجاح الذي وصلت إليه وأن من أهدافنا الوطنية نشر اللغة العربية واحلالها محل اللغة الإنجليزية في كل مناحي الحياة المصرية وأهم منحى هو تثقيف القاعدة العريضة من شعب مصر خاصة وأن أغلبها لا يستطيع القراءة والكتابة عن طريق المسرح ليدعم الجهود التي تبذلها وزارة المعارف ضد الإنجليز في مجال التعليم، وأن وزارة المعارف ستقوم بتسهيل كل العقبات التي قد تصادف "جورج أبيض " لتأدية هذه الرسالة الوطنية التي يرى أن جورج جاء مبكراً خمسين عاماً لينقل ثمار ما وصلت إليه محاولات المسرح الأوروبي ويطبقها ويختصر بها طريق النهضة التي تصبو لها مصر.
كان أول قرار أتخذه "جورج أبيض" فور خروجه من مكتب "سعد زغلول" أن حل فرقته الفرنسية واستغرق عاماً كاملاً حتى عام 1912م في تعريب كل المسرحيات الأجنبية التي قام بتقديمها مع فرقته الفرنسية، ثم قام بنشر إعلان في الصحف لهواة التمثيل لتكوين فرقته المصرية الخالصة ونجح في ذلك وكان يوم 19 مارس 1912م في دار الأوبرا هو ميعاد تقديم أول عرض مسرحي باللغة العربية مبني على أسس فنية سليمة وتخطيط دقيق ومدروس للحركة لا يخرج عنها الممثل باجتهاد شخصي منه على الإطلاق، وكانت أول مسرحية باللغة العربية قدمها جورج أبيض هي مسرحية " جريح بيروت" كتبها شعراً الشاعر المصري "حافظ إبراهيم، ثم مسرحية أوديب وتلاها مسرحية لويس الحادي عشر ثم في يوم 30 مارس 1912م كانت مسرحية عطيل ورغم أن سعر التذكرة كان في ذلك الوقت 40 قرشاً إلا أن احتشاد الجماهير لمشاهدة أول مسرح عربي مصري خالص كان على أشده وربما كان من أهم دعائم نجاح هذه التجربة الأولى للمسرح العربي هو رعاية الدولة له من خلال وزارة المعارف وعدم البخل في الإنفاق عليه باعتباره أحد أهم روافد التثقيف للمجتمع الذي يعاني غالبيته من الأمية ومن ثم نجحت رسالة " سعد زغلول" من خلال مسرح "جورج أبيض" في ولادة أول مسرح عربي مصري له غاية وهدف وطني خالص.
في عام 1913م صار أحمد حشمت باشا وزيراً للمعارف خلفاً لسعد باشا زغلول، وكان حريصاً بل ومهموماً بفكرة تعميم الثقافة والتعليم لتشمل كل المصريين، ومن ثم استدعى جورج أبيض وأمره بأن يمثل بعض رواياته باللغة العامية الدارجة التي يتحدث بها الشعب في الشارع ليستطيع استيعابها المواطن العادي وبذا يتيح للجماهير الأخرى الأقل ثقافة أن يرتادوا المسرح الجاد ويطلعوا على ثقافات العالم من خلال مسرح جورج أبيض وبالفعل حول جورج أيضأ أغلب المسرحيات العالمية المترجمة باللغة العربية الفصحى إلى مترجمة باللغة العامية الدارجة وبالفعل أصبح في مقدور الجمهور الأقل ثقافة أن يتعرف على ثقافات العالم ومن ثم صارت هذه التجربة التي استهلها جورج أبيض في مسرحه هي أول تجربة مسرحية لنقل أعمال عالمية كما هي باللغة الدارجة الشعبية بعيداً عن الاقتباس أو الدراماتورج، كما أنه افسح المجال للاستعانة بأعمال لكتاب مصريين وعرب أمثال أحمد شوقي وتوفيق الحكيم وفرح وأنطون وحبيب جاماتي وغيرهم.
وفي عام 1914م بدأت الحرب العالمية الأولى ومع نشوبها اصبحت أعصاب الناس مشدودة ومضطربة وبحاجة إلى مهدئات ومسكنات فانصرفوا إلى الملاهي التي انتشرت في القاهرة وصارت تقدم الاسكتشات الكوميدي والتابلوهات الراقصة وأمام هذا التيار الجارف لم تستطع فرقة جورج أبيض أن تصمد على طريق المسرح التراجيدي فبدأ يبحث عن نوع جديد أخف ووقع على ضالته بأن أراد أن يقدم مسرح نقدي باللغة العامية تصور واقع الشارع المصري ومشكلاته وهمومه وتكشف عن عيوبه وتعالجها ووقع اختياره على الكاتب "فرح أنطون" الذي قدم له مسرحيتان لاقا نجاحاً منقطع النظير الأولى مسرحية "مصر الجديدة" والثانية "بنات الشوارع" وكانتا مسرحيتان نقديتان استحسنهما المشاهد المصري لما فيهما من واقع يعيشه المواطن المصري بالفعل بكل ما فيه من اضطراب وفساد وخوف من الغد الذي تلاشت ملامحه بسبب الحرب بل ويجب التأكيد على أن مسرح جورج أبيض هو صاحب الريادة في مولد أول مسرحية مصرية صميمة تعبر عن المجتمع باللغة التي يتحدث بها المجتمع في الشارع.
ثم أمام نتائج الحرب وضعف الإيراد وقلة أعداد رواد المسرح استطاع جورج أبيض أن يقنع سلامة حجازي بدمج الفرقتين ليصبحا فرقة واحدة باسم " أبيض وحجازي" ونجح الاندماج حتى عام 1916م وكان سن جورج أبيض 32 عاماً والشيخ سلامة 64عاماً، وفي عام 1917م أراد جورج أبيض أن ينتج مسرحاً استعراضياً عملاً بنصيحة الشيخ سلامه حجازي الذي قدم له الشيخ سيد درويش الذي كان يغني بين الفصول أغانيه التي عرفه الناس بها لكن حينما سمعه جورج أبيض لمح فيه قدرة على تلحين الأوبرا والأوبريت فتعاقد معه بثمانية عشرة جنيهاً في الشهر لمدة ثلاث سنوات على أن يقوم بتلحين أول أوبريت مصري بموسيقى تعبيرية وتصويرية هو اوبريت فيروز شاه من تأليف بطل مصر في المصارعة والكاتب والمترجم المسرحي عبد الحليم دلاور الشهير بعبد الحليم المصريـ ذلك الاوبريت الذي نقل الشيخ سيد درويش لمصاف عباقرة الموسيقى في العالم العربي بل والعالم أجمع.
ويواصل جورج أبيض جهاده في سبيل المسرح والفن رغم احوال العالم المضطربة بسبب الحربين العالميتين وحالة الكساد الكبرى التي طغت على العالم باسره لكنه كان مثابراً وعنيداً فانشأ أول معهد تمثيل في الشرق 1930م وأنشأ المسرح التونسي وحين حصل على الجنسية المصرية في شهر يونيو 1932م قرر انشاء الفرقة القومية الحكومية عام 1935م والمعروفة حالياً باسم المسرح القومي وفي عام1943م تأسست نقابة ممثلي المسرح والسينما وتم انتخاب جورج أبيض كأول نقيب لها بأجماع الأصوات وظل يناضل في رسالته مع المسرح حتى لقى ربه في 12 فبراير 1959م.