توقّف القطار ..
العربة (12) , تذكرة رقم 24 , جلست علي الكرسي المخصص , تصفّحت بدافع من الفضول وجوه بعض الركاب , العربة غير مكتملة العدد , إلا القليل من الكراسي الفارغة , اخرجت ديواناً من الشعر لفؤاد حداّد , رحت أغوص في تفاصيل كلماته , غير مهتم بما يدور حولي , وأين توقّف القطار , ولا مَن استقل العربة , قليلاً كنت اتابع حركة البيع والشراء داخل العربة , ثم اعاود القراءة , كم مضي من الوقت لا أعلم تحديداً , وكأنّها رياح شتويّة أزاحت غُبار أعوام , تكوّمت بفعل رحلات سفر طويلة , لتكتب بداية أخري لقصّة حُب توارت خلف ضباب حياة قاسيه.
( ياسمين ) كانت ولم تزل أغنية في الطريق , يهيم بنغماتها مَن استمع إليها , أسيراً تراوده أينما ذهب , حديقة من الزهور المتفتّحة , نجمة متألقة في خطواتها , نظر إليها الكثيرين , داعبت أنفاسهم الحارة , ثم اختفت تاركة لهم بقايا حلم تكسّرت عظامه بين فكي رحى انتظار طويل .
عناق حار مابين نظراتها وابتسامتي , أشعر برغبة في شرب الماء , جف حلقي كمن يطارده خيالاً في ساحة حرب , كلمات قليلة , شقّت طريقها إلي النور , مابين التحيّة والسؤال : أين مكان عملك ؟ هل تزوجتِ أم لا ؟
أسئلة تفتّش في أوراقها عن أمل , يهيّئ للقلب طريقاً , يعطي انطباعاً بالطمأنينة وفرصة لمزيد من الحديث والتفاصيل , ( ياسمين ) تملك أنوثة طاغية وكأن الحياة أفرغت كل ما لديها من جمال ورقّة في شخص امرأة لم تتجاور عامها الثلاثين بعد , تمشي فترقص العصافير طرباً بدقّات قدميها , تتكلّم فيأخذك سحر عوالم أخري , كطائر شعر بحرّيّته فجأة , فحلّق في السماء يضرب بجناحيه , أتصبب عرقاً في كل سؤال وأنا أنمّق وأجمّل كلماتي , أحاول جاهداً ألا أكون ثقيلاً حتى وإن تصنّعت ابتسامة في كل كلمة , كدت أطير من الفرح , فقط لأنه لم يبدر منها أي إشارة بإنهاء الحديث .
لا أجد صعوبة في خلق حُجج , فقط لسماع صوتها عبر الهاتف كل يوم , هي تعلم أنها حُجج , وأنا اعلم برغم كونها حُجج , إلا أنها كشربة ماء عذب في أرض جافه , كلمات قليلة ودقائق قليلة , لكنها كانت كَيدٍ دافئة تزيح ضباب أياما شتوية , وتنبت في القلب أشجارا وحدائق , تسكن إليها العصافير وتوزع حلوي علي الأطفال في الشوارع .
لقاؤنا الأول , كان أشبه بغريب لقي وطنه , فطاب له كل شيء , كنت انظر إلي عينيها , تتجمد الكلمات التي كانت تسيل علي فمي بطلاقة , لمست يديها وكأني امتلك قطعة من قصر, يعُجُّ بالتحف والكنوز , الأيام تمضي سريعاً , لا جديد غير الكلمات لديّا , أَغلقت الحدائق في وجهي أبوابها , أنا لا املك شيئاً لبناء بيت وتكوين أسرة , أنا قد أصبح أنانيّاً , لأدعها بين يديّا تذبل وأتحسّر عليها , تطل من رأسي كوّة يأس قاتله , اسمع من خلالها صوت فلاسفة الإحباط الأكبر تقول : لا يكفي أن تمتلك شجرة مادمت غير قادر أن ترعاها وتحافظ عليها , سُعار من الحُزن يأكل فروة رأسي , قررت وكأنّي انزع أظافري من اللحم , أن أصارحها بما في نفسي وما أقدمت عليه رغم قسوته , لمست يدها , نظرت إلي عينيها , تقهقرت جيوش كلماتي تحت أسنّة رماح براءتها , رحت أتغزل في عينيها ومستقبلنا معاً , أصبحت كاليتيم بدونها , ومعها امتلك العالم , مرّة أخري ومرّات , تعددت لقاءاتنا, لا من جديد يذكر ولكنه القديم يعاد , أتنقّل بين المارة من الركاب وبين الباعة الجائلين ذهاباً وإيابا , ربّما أتخلّص من كسر زجاج عينيها المتناثر في جسدي , تركَت يدي , تركتُ يدها , نظرت إليها من خلف نافذة القطار , تبتعد وكأنها شمس , اختطفها الغروب وراح بعيداً حتى اختفت تماماً عن الأنظار .