أوهام الجنوبي .. بقلم محمد فيض خالد

أوهام الجنوبي .. بقلم محمد فيض خالد
أوهام الجنوبي .. بقلم محمد فيض خالد
 
اطالِعُ بعينٍ  تتَحاشى أن تَصطدِم بجهامةٍ غَلَّفت تقَاسيم وجهه الأسمر الفاحِم  ، يَشرخُ في عُنفوانٍ مُفتَعل الفَراغ ، مُتأبِّطَا دفاتره ، مُمسِّكَا بيدهِ حقيبةً جِلدية متوسطة القيمة ، تَدلُ هَيئته في هِندامٍ مُتكلِف ، أنّهُ من أربَابِ المِهن المرموقة ، عَلِمتُ لاحِقَا اسمه "عبده " من أبناءِ الجَنوبِ ، وأبناء الجنوب عِندنا أولئك الذين قضوا دَهرا في تَأرجُحٍ مُتعِب ، ما بينَ جنوبها وشمالها ، لا إلى هؤلاء انتسبوا ، ولا لأولئك ركنوا ، تتَوارى في وجوههم المزمومة ، وشِفاهم الغِلاظ بقَايا كِبرياء سَاذج ، يَدَّعي صاحبنا عَدم اكتراثٍ بالنَّاسِ ، أوصَله أحيانا لأن يكون عَدائيا مغرورا ،  يتَحسَّس تَصرفات من حوَله، يصرفها على سوءِ النّية  ،  جَعلته غرَضَا لأن يكونَ مَنبوذا قَصيَّا ، تتَلاعبُ بهِ الظّنون .
شاءت الأقدارُ أن اقترِبَ منه عند مدخلِ البيتِ بدأته مُسلِّما ، بيد أنّهُ رَدَّ مُتململا ، سُرعَان ما تَحرَكَ يَهزّ كتفيه ، يضربُ الأرضَ في فَورةٍ خَائفا يَترقّبُ  ،  لم أيأس  منه ؛ بمرورِ الوقِت بدأت أعصابه تلين ، هدأت ثائرته قليلا اقَبلَ عليَّ قبولا حَسنا ، وكأنّه يُنقِّبُ عن نواياي  ، تَصَادفنا قُبَالة الممر الرَّئيس ، بادرني  مُحيِّيا  في تلطُّفٍ ، سَألني عن بلدي ، صَمت حِينا ثم بدأ يُغمغمُ ، اخبرني في زَهوٍ بأنّه يعمل مُدرِّسا ، سَرحَ قليلا قبل أن يُكمِلُ :" لقد سَبقَ وأن تزوَّج عمي الأكبر حسن من المنيا "، هَرَشَ رأسه في ارتياحٍ ، وكأنَّه يسَتحضرُ ذكرى عزيزة عليهِ :" أهل المنيا ناس طيبة ، الله يرحمك يا مرات عمي"، ثم عَادَ سيرته الأولى فَزِعَا ، لينصرِف بغيرِ وداعٍ ، سَارت علاقتنا بين مَدٍّ وجَزر ، حاولت استمالته ثانيةً ، بيَد أنّه لم يترك لي المجال ، كُنتُ قد انشغلت عنه ببعضِ أمرٍ،  بينَ الفيَنة والأخرى   تتَراقص سِيرته في المجلسِ ، اتَّخذها القومُ مادة للتَّندرِ ، وبالخُصوصِ  " جرجس " عامل البَقالة ، الذي يكره فيهِ عَنجهته الفَارِغة ، يَقُولُ في حُرقةِ الموتور :" دا عامل فيها خبير نووي "، ثم يغَيبُ في ضحكةٍ هِستيريةٍ ، يتَطاير من عَينيهِ رشراش الدَّمع ، انتقلت لمسكنٍ جديد ، لكن زياراتي لم تنقطع عن بَقالةِ " جرجس " وفي مرَةٍ قابلت صاحبي أمام بقالته ، بدى في حُرقةِ الانتظار ، فلا يستطيع لها صبرا ، ما إن رآني حتى عَاجَلني بضحكةٍ صَارِخَةٍ ، قائلا في تشفي :" شفت صاحبك الحَرامي عمل إيه؟!"، كان الاستاذ قد تشاجرَ مع زميلٍ له ، بعدما اكتشفَ الأخير جريمته  ، تَعوّد صاحبنا اختلاس " دجاج " الرَّجل من ثلاجَتهِ وقت غيابه، يَسلقهُ ليَحصلَ على مَرقهِ ، ثم يعيده حيث كاَنَ ، حتّى جاَء اليوم الذي افتضحَ فيه أمره ، غَادرَ المنطقة بوزرهِ  ، لكنَّ فِعلته المُشينة عَلق إثرها زمنا ، تدر عليهِ مخازي ، تُطَارده حتّى تَطلع الشَّمس من مَغربها .